قبل 4 ایام
أحمد عبد الرحمن
34 قراءة

محمد فرج.. المثقّف أول من يقاوم وآخر من ينكسر!

في العالم المتحضّر والحر، يُنظر إلى شريحة المثقفين والعلماء بكثير من الاحترام والتقدير، ويكادون يتفوّقون على كل من سواهم من رجال الدولة والسياسيين وباقي أطياف المجتمع في المكانة والمنزلة، وهم في ذلك ينالون جزءاً ضئيلاً من حقوقهم على الآخرين لقاء إسهاماتهم المهمة وأدوارهم الطليعية والحاسمة.

على العكس من ذلك تماماً، يُنظر إلى هذه الشريحة في معظم دولنا العربية والإسلامية بأنهم أعداء للوطن، ومثيرون للفتن، وأصحاب أجندات خارجية، ويستحقّون اللعن والشتم والسجن، ولمَ لا في كثير من الأحيان القتل وسفك الدماء!

في حقيقة الأمر، فإن المثقّف في الدول المتحضّرة هو نفسه المثقّف في الدول العربية والإسلامية، ويكاد الاثنان، وإن اختلفت اللغات والثقافات والديانات، يجتمعان في المرجعية الثقافية نفسها التي دوماً ما تدعو إلى إعمال العقل، والتفكّر، وتوجيه كل الطاقات الممكنة بما يخدم مصلحة الشعوب والأوطان، إلا أن السياسات التي تتبعها أنظمة الدول المتحضّرة تختلف شكلاً وموضوعاً عن تلك التي تنتهجها أنظمة دول العالم الثالث، الذي لم يصبح ثالثاً إلا بفعل سياسات أنظمته التي تتسم بالجهل والتخلّف، والاستسلام لإملاءات قوى الاستعمار، والتي تسعى لإدامة هذا الحال حفاظاً على مصالحها في المنطقة، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء هذا النوع من الأنظمة، وهذا النوع من الحكّام.

خلال سنوات خلت، واجهت شريحة المثقفين في العالمين العربي والإسلامي الكثير من المصاعب، وتعرّضت للعديد من المضايقات، وهي، أي هذه الشريحة، لم تنل نصيبها من التكريم والتشريف اللازمين فحسب، بل تلقّت اتهامات أيضاً، وتعرّضت لعقوبات، ودفعت مقابل ما قدّمته من إسهامات وأفكار عشرات الأعوام من أعمارها خلف قضبان السجون. وفي أحيان أخرى، دفعت حياتها وسني عمرها كاملة.

وبما أن الأنظمة الرجعية ما زالت كما هي، تحمل الأفكار نفسها، وتستخدم الأدوات نفسها، وتلجأ إلى الوسائل نفسها، رغم محاولتها إنكار ذلك، فإن النتيجة التي كانت سائدة فيما مضى تتكرر بالشكل نفسه، وتظهر بالتفاصيل نفسها، وما اختلف فقط هو تبدّل الأسماء، سواء لتلك الظالمة أو الأخرى المظلومة.

في هذا المقام، نجد أنفسنا ملزمين أخلاقياً وإنسانياً بالكتابة عن قضية اعتقال الصديق المثقّف محمد فرج، والذي نأمل أن يجد طريقه إلى الحرية قبل أن تجد هذه الكلمات طريقها إلى النشر، وأن يعود إلى أسرته الصغيرة سالماً معافى، وإلى أسرته الكبيرة في الميادين ليواصل تميّزه وعطاءه.

إن لم تخنّي ذاكرتي المثقلة بالكثير من الأحداث والذكريات، والمشوّشة بفعل ما عشناه وما زالنا من عدوان سافر على قطاع غزة المنكوب والمحاصر، فإن أول لقاء جمعني بالصديق محمد تم عبر الهاتف في أواخر العام 2021 تقريباً، ومع أنه كان اتصالاً سريعاً ومقتضباً تناولنا فيه موضوع الكتابة عبر موقع الميادين أونلاين، إلا أنه فتح الباب سريعاً لعلاقة ما زلت أعتبرها من أمتن العلاقات التي ربطتني بأصدقاء خارج فلسطين المحتلة وأكثرها تميزاً، إذ توسّعت لاحقاً لتشمل تبادل الأفكار، ومناقشة أوضاع فلسطين والمنطقة والعالم، ولا سيما ونحن نحمل الهم نفسه، ونتشارك وجهات النظر نفسها، وإن لم يمنع هذا الأمر اختلافنا النسبي في ما يخص الأولويات والأدوات.

قد تكون شهادتي في الصديق محمد فرج مجروحة، لكوني أكتب في الميادين أون لاين. وقد يعتقد البعض أن موقفي من قضيته هو نتاج مصلحة ما أسعى إليها، إلا أن الحقيقة هي أن هذا الموقف المساند والمتضامن مع الصديق محمد هو موقف إنساني وأخلاقي في المقام الأول، وهو ليس مرتبطاً بعمل أو فوائد، بل هو موقف مساند لقضية نراها محقّة، ومظلَمة نراها بحاجة لمن يُنصفها، وتجاوز بحاجة لمن يضبط اعوجاجه ويقوّمه.

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، تعرّضت لما تعرّض له محمد فرج أكثر من خمس مرات، حيث السجن والترهيب والتهديد، وفي سجون ليست "إسرائيلية" للأسف، بل سجون أنظمة وسلطات كانت وما زالت تنظر إلى المثقفين والوطنيين بأنهم أعداء، وتحاول كل جهدها إبعادهم عن المشهد بكل الوسائل الممكنة، حتى لو وصل ذلك إلى التغييب الجسدي. في ذلك الوقت، كانت التهمة جاهزة: تحريض على الدولة، وإخلال بالأمن، وتعكير صفو السلم المجتمعي، وهي تهمة كانت مخصصة للوطنيين والشرفاء فقط، ولم يحدث أن تم توجيهها إلى اللصوص والمجرمين والمفسدين في الأرض.

لا أعرف التهمة التي وُجّهت إلى الصديق محمد، وهل هناك من الأساس ما يمكن أن يوجّه إليه وهو القومي العروبي الداعي إلى الوحدة ورص الصفوف، وإلى توجيه كل الطاقات بما يخدم قضايا الناس والمجتمع، إلا أن التجربة التي عشتها قبل أكثر من عشرين عاماً تخبرني بأن تهمته هي تهمتي نفسها، وجريمته هي جريمتي نفسها، وأن ما ارتكبه من إثم قد ارتكبته قبله بسنوات طوال؛ جريمتنا وإثمنا هو حبنا للأوطان، ودفاعنا عنها، وحرصنا على مصالحها التي نراها كل يوم تنهار بفعل سياسات الفاسدين وجهل الجاهلين.

تهمة الصديق محمد، كما أعتقد، أنه دافع عن المظلومين، ونافح عن المستضعفين، ورفض كل أشكال الظلم التي تلحق بشعوبنا المغلوبة على أمرها، والمسلوبة لمعظم خيراتها، والمنسيّة من حكامها وزعمائها وأمرائها الذين لا يرون فيها سوى قطيع من الماشية يسوسونه أينما شاؤوا، ويوجهونه أينما أرادوا. 

على كل حال، وعلى الرغم مما لحق بالصديق محمد فرج من ظلم، وما حل به من مشقّة، وما ناله من عناء وشقاء، فإننا على تمام الثقة بأن الفرج قريب، ليس لأن السجّان قد يصحو ضميره، وليس لأن النظام قد اكتشف خطأه وندم عليه، بل لأن ثقة محمد بنفسه أكبر من كل أشكال القهر والإذلال، وأن هامته الشامخة أعلى وأقوى من بوابات الزنازين المعتمة، وأن فكره المستنير أصلب وأشدّ عوداً من أفكار أولئك الظلمة والمتجبرين.

ختاماً، أدعو الله أن يفك كرب الصديق محمد فرج عاجلاً غير آجل، وأن تزول هذه الغمة عما قريب، وأن يعود إلى أهله وذويه وعائلته في الميادين أكثر عزماً، وأشد مضاءً، وأكثر عطاء. 

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP