"خط الجثث" الإسرائيلي.. وما خفي أعظم!
من المهم أن يبقى العرب والمسلمون، إلى جانب أحرار العالم الذين عرفوا حقيقة هذا الكيان المجرم، يطرقون على جدار الخزّان، لعل الضمائر النائمة تصحو من سباتها، ولعل القلوب الميتة تفيق من غفلتها.
في أواخر شهر آب/أغسطس الماضي، توجّه الشاب خالد - نتحفظ عن ذكر الاسم كاملاً مراعاة لمشاعر ذويه - من سكّان حي الزيتون جنوب شرقي مدينة غزة، لتفقّد بيته الواقع على بعد نحو عشرين متراً إلى الشمال من الشارع رقم "8" جنوبي الحي المدمّر والمنكوب، وهذا الشاب كان معتاداً أن يذهب إلى هذا المكان المحفوف بالمخاطر من كل اتجاه كل عدة أيام، كما يفعل معظم سكّان القطاع، الذين نزحوا عن منازلهم بفعل عدوان الاحتلال المتواصل منذ أربعة عشر شهراً.
في ذلك اليوم، كان خالد رفقة شاب آخر يسير كعادته في منتصف شارع "مستوصف شهداء الزيتون"، الذي يقع فيه منزله، وهذا الشارع تحديداً تعرّض لحملة ممنهَجة من القصف والتدمير الصهيونيين، بدأت منذ الشهر الثاني للحرب، وهي مستمرة حتى يومنا هذا.
والسير في منتصف الشارع كان مقصوداً للتدليل لقوات الاحتلال، التي تراقب المنطقة من السماء على مدار الساعة، على أنه ليس من رجال المقاومة، وأنه شاب أعزل لا يحمل في جعبته أي سلاح يمكن أن يشكّل تهديداً لجيش العدو، الذي كان يوجد على بعد خمسمئة متر عن منزل ذلك الشاب، وهو الذي تُوفِّيت أمه قبل عدّة أشهر، ومات أبوه وهو ما زال فتىً صغيراً، ولا يملك سوى أخت واحدة.
عندما وصل خالد وصديقه إلى مسافة قريبة من منتصف الشارع، أطلقت طائرة مسيّرة إسرائيلية، من نوع "كواد كابتر"، عليهما النار من الجو، فأصيب خالد برصاصة واحدة أسقطته أرضاً، بينما تمكّن صاحبه من النجاة بأعجوبة، بحيث اختبأ تحت أنقاض منزل مدمّر منتظراً فرصة ملائمة لسحب رفيقه إلى مكان آمن، تمهيداً لنقله إلى أحد المراكز الطبية، إلا أن ما حدث لاحقاً لم يكن مُتوقَّعاً، إذ عادت المسيّرة الإسرائيلية لتطلق النار مجدَّداً على الشاب المُلقى على الأرض، وتُصيبه بعدة طلقات أخرى في كل أجزاء جسده، حتى ارتقت روحه إلى السماء، في جريمة إعدام مع سبق الإصرار والترصّد، وفي تجاوز واضح لكل القوانين الدولية ذات الصلة بحماية أرواح المدنيين وقت الحرب.
بقيت جثة الشاب خالد مُلقاة في منتصف الشارع أكثر من ثلاثة أسابيع، من دون أن يتمكّن أحد من أصدقائه او أقربائه من انتشالها، بحيث إن الوصول إلى ذلك المكان أصبح مستحيلاً، حتى من خلال سيارات الإسعاف أو طواقم الدفاع المدني، والتي تُمنع في معظم الأحيان من تقديم خدماتها للمصابين الموجودين في أماكن خطرة، أو محاولة الوصول إلى جثامين الشهداء ليتمكّن ذووهم من توديعهم ودفنهم.
بعد تلك المدة الطويلة، تمكّن بعض الشبان من الوصول إلى المكان الذي كانت توجد فيه جثة ذلك الشاب، مستغلين بعض الضباب الذي يحجب الرؤية عن جنود الاحتلال وغربانهم التي تحلّق في الأجواء على مدار اللحظة، إلا أن المفاجأة الصاعقة التي أصابتهم كانت كبيرة، إذ لم يجدوا الجثة في المكان الذي أخبرهم به صديقه الناجي، فأخذوا في البحث قريباً منه حتى وجدوها في مكان مجاور وقد نهشتها الكلاب الضالة والجائعة، وحوّلتها إلى هيكل من العظام المهشّمة، التي ضاعت معالمها بصورة كاملة، ولم يتم التعرّف إلى هوية الشهيد سوى من بعض بقايا ملابسه التي كان يرتديها.
هذه القصة الحقيقية، والتي عايشتها عن قرب، هي إحدى آلاف القصص المشابهة، والتي مارست فيها قوات الاحتلال جرائم قتل بشعة لمجرد القتل فقط، ومن دون أن يتعرّض جنودها لأي مخاطر حقيقية، ومن دون أن يشكّل الضحايا أي تهديد على قواتها المنتشرة في أماكن مدنية وسكّانية، والتي لا يحق لها، بحسب كل القوانين الدولية، أن توجد فيها، أو أن تستغل ذلك الوجود للقيام بجرائم إبادة جماعية ضد المدنيين العزل.
قبل يومين، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تقريراً مهمّاً، يمكن له أن يكون مستنَداً قانونياً صالحاً للاستخدام أمام المحاكم الدولية لإدانة جيش الاحتلال بارتكاب كل أنواع جرام الحرب والإبادة الجماعية، بحيث ورد فيه، نقلاً عن قائد يخدم في "الفرقة 252" الإسرائيلية، والموجودة في محور نتساريم وسط قطاع غزة، من جانبيه الشمالي والجنوبي، أنهم في جيش الاحتلال يطلقون على المنطقة القريبة من هذا المحور، وتحديداً من ناحيته الشمالية، اسم "خط الجثث"، وهذه المنطقة، لمن لا يعرف، تشمل الأجزاء الجنوبية لمناطق حي الزيتون، التي استُشهد فيها الشاب خالد، وتمتد في اتجاه الغرب في محاذاة مناطق الصبرة وتل الهوا والشيخ عجلين، وتبلغ مساحتها من الشرق، حيث السياج الفاصل بين قطاع غزة وأراضينا المحتلة عام 48، في اتجاه الغرب، حيث شارع "الرشيد"، نحو ستة كيلومترات ونصف كيلومتر مربع.
ويضيف القائد في جيش الاحتلال، بحسب "هآرتس"، أنه تم تصنيف محور نتساريم "منطقةَ قتل"، وأن كل من يدخله، أو يقترب منه، تُطلق عليه النار، وتترك جثته لتأكلها الكلاب، وأنه يتم التعامل مع المواطنين الفلسطينيين الذين يقتربون من هذا المكان على أنهم مسلحون، وان هناك أوامر بإرسال صور الجثث إلى قيادة الفرقة، بحيث تم إرسال أكثر من مئتي صورة، تبيّن بعد الفحص أن 190 منها تعود إلى مدنيّين عزل، وليس لهم أي علاقة بفصائل المقاومة.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك سباق تحدٍّ، كما يقول القائد الصهيوني، بين الوحدات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة من أجل قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وأن جيش الاحتلال يتصرّف، في كثير من الأحيان، على نحو يشبه الميليشيات والعصابات المسلّحة المستقلة، ومن دون التزام أي قوانين.
على أرض الواقع، فإن ما ذكره القائد الصهيوني لصحيفة "هآرتس" لا يتعدّى كونه غيضاً من فيض من الجرائم والمذابح التي ترتكبها وما زالت قوات الاحتلال في قطاع غزة، والتي أدّت، حتى وقتنا الحالي، إلى سقوط أكثر من خمسين ألف شهيد، ما زال أكثر من عشرة آلاف منهم تحت الأنقاض، ومر على بعضهم ما يزيد عن عام كامل، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين، والذين يعاني أكثر من نصفهم إصابات بالغة، تطلّبت بتر بعض أطرافهم.
وفي بعض الحالات تعرّض كثيرون منهم لعمليات بتر طالت أطرافهم الأربعة، ولاسيّما فئة الأطفال الذين لا تتحمّل أجسادهم الغضّة والطريّة شظايا صواريخ الاحتلال الملتهبة، والتي تكفي قطعة صغيرة منها لبتر يد طفل أو قدمه، وتؤدي، في كثير من الأحيان، إلى قطع رأسه وفصله عن جسده.
في محيط محور نتساريم، كما هي الحال في كثير من مناطق قطاع غزة المنكوبة والمدمرة، تجري عمليات قتل وإعدام ممنهجة، بعيداً عن أعين الصحافة، وبعيداً عن تقارير الصحف والمواقع الإخبارية. وفي كثير من الأحيان، يتم التعتيم عليها بصورة متعمَّدة لحماية جيش الاحتلال وقيادتيه العسكرية والسياسية من المساءلة القانونية، ولإخفاء وجه هذا الجيش الدموي، والذي لطالما تغنّي بأنه أحد أكثر جيوش العالم أخلاقاً ورقيّاً، وهو في حقيقة الأمر، كما هو مُثبت في كثير من الوقائع، أكثرها إجراماً وهمجيّة وبربرية.
في كل حال، وعلى الرغم من عدم ثقتنا بالمحاكم الدولية والمؤسسات الأممية، والتي خذلت شعبنا في معظم الأوقات، ولم تُنصفه، على رغم آلاف الشواهد على المظلومية التي يتعرّض لها، والتي رأى العالم بعض فصولها، عبر الهواء مباشرة عبر شاشات التلفزة العربية والأجنبية، فإن من المهم أن يبقى العرب والمسلمون، إلى جانب أحرار العالم الذين عرفوا حقيقة هذا الكيان المجرم، يطرقون على جدار الخزّان، لعل الضمائر النائمة تصحو من سباتها، ولعل القلوب الميتة تفيق من غفلتها.
نحن على ثقة تامة بأنه، في يوم من الأيام لا نراه بعيداً، ستدفع هذه "الدولة" المارقة والمجرمة ثمن كل أفعالها وجرائمها، وأن كثيراً مما ارتكبت يداها الملطّختان بدماء الأبرياء سيظهر إلى العلن، وأن المخفي سيصبح ظاهراً، والمسكوت عنه سيصبح معلوماً.
في ذلك اليوم، سيطمئن خالد وآلاف آخرون من أمثاله في قبورهم، وسيعلمون، بلا شك، بأن الاحتلال، الذي قتلهم من دون أي مبرر، دفع ثمن ما كسبت يداه، وأن قصصهم لن تموت في بحر النسيان، وأن جثثهم، التي نهشتها الكلاب، ستعود إلى جمالها ونضارتها من جديد، لكن ليس في هذا العالم الظالم والقبيح، بل في عالم آخر، تحت عرش الرحمن، حيث الحب والخير والعدالة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً