الأردن... مغامرة التحالفات
على الرغم من إثارته موجة استهجان ورفض واسعين، فإن خبر افتتاح مكتب اتصال للناتو في الأردن لم يكن مفاجئاً، نتيجة الأسباب التالية:
1. على الرغم من أن الناتو يحاول تقديم نفسه حلفاً "دفاعياً" عن شمالي الأطلسي، في شقيه الأميركي والأوروبي، فإن تمدده ومحاولات توسعه إلى القارات البعيدة لم تتوقف. وحضور دول، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزلندا، في القمة الأخيرة، هو تعبير عن هذه المحاولات، وليس أُولها ولا آخرها.
لا يفلت الشرق الأوسط من يد هذه المحاولات. ففي عام 1994، أطلق الناتو الحوار المتوسطي مع مصر و"إسرائيل" والأردن لغايات تعزيز التعاون معها (تزامن ذلك في العام نفسه لإطلاق برنامج الشراكة من أجل السلام مع عدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق).
وفي عام 2004، أطلق الناتو مبادرة إسطنبول للتعاون، والتي دعا إليها قطر والإمارات والبحرين والكويت. وفي عام 2014، أعلن الناتو تدشين حزمة لتطوير القدرات الدفاعية للأردن.
2. عادة، يتصور عدد من الباحثين أن الانسحاب الأميركي من المنطقة سيشبه الانسحاب العسكري المفاجئ من أفغانستان؛ أن تترك أميركا كل شيء وراء ظهرها، بما في ذلك أي معدات لم تعد تلزمها، وتغادر.
لكن الحال هنا مغايرة، والانسحاب الأميركي من الأدوار الأمنية والسياسية في المنطقة ليس من السهل أن يتم، من دون قناعة واشنطن بأنها أنجزت الترتيبات اللازمة لذلك. وواحد من هذه الترتيبات هو استمرار المحاولة التي لا تيأس من أجل تحويل فكرة "الناتو العربي" إلى واقع. ويأتي إعلان افتتاح مكتب اتصال في الأردن في هذا السياق!
3. قبل هذا الخبر، لم يكن هنالك أي إشارات قادمة من عمّان تشي بخروج الأردن من خريطة تحالفاته التاريخية، والتي تشكل الولايات المتحدة عمودها الفقري. مع كل الانتقادات الموجّهة رسمياً من الأردن إلى "إسرائيل"، فإنه لم يتخذ إجراءً حاسماً فيما يتعلق باتفاقية وداي عربة مع كيان الاحتلال، كما أنه لم ينتقد انحياز الموقف الأميركي، الذي بات واضحاً للجميع.
تقوم الفرضية الرسمية الأردنية من أجل تبرير الإصرار على التزام هذا التحالف، من دون غيره من التحالفات والتكتلات الناشئة في العالم والإقليم، على:
1. أن الاقتصاد الأردني لا يستطيع الوقوف على قدميه من دون المساعدات الأميركية، التي تمثّل، إذا ما أضيف إليها المساعدات الأوروبية، ما يقارب ربع النفقات العامة في الميزانية (16 مليار دولار).
2. أن الأردن غير قادر على مواجهة التحديّات الأمنية في المنطقة وحده، ومن ذلك موجة التيارات التكفيرية التي طال جنونها سوريا والعراق ولبنان، وتمكنّت قوى المقاومة (وليس أي طرف آخر) من هزيمتها وإخمادها.
3. أن الأردن خرج سليماً معافىً من لهيب "الربيع العربي". وفي الوقت الذي طُحنت دول، واختل استقرارها، سياسياً واجتماعياً، خرج الأردن البلد الأكثر استقراراً من تلك المرحلة.
4. أن الأردن يمثل اليوم، في هدوئه واستقراره، مقصداً للاستثمارات الخارجية، التي تنعش الاقتصاد المحلي، وتوفر مزيداً من فرص تطور بنية الخدمات، والتي تجاوزت في عدد من القطاعات حد الإشباع.
لكنّ مبدأ "النجاة التكتيكية" ليس بالضرورة أن يعمل طويلاً، كما أنّ تكلفة التزام خريطة التحالف الحالية سوف تتعاظم في المستقبل، ومن ذلك:
1. أن يجد الأردن نفسه منبوذاً في المنطقة، ولاسيما مع اتخاذ إجراءات تسير عكس تطلعات شعوبها، في المحطة الأكثر سخونة من تاريخ الصراع مع الاحتلال.
2. أن يقترب موعد انفجار "الفقاعة المالية"، وبدأ ذلك يظهر في الإجراءات الحكومية المتمثلة بالتعديل المتكرر لقوانين الرسوم والضرائب، واستمرار اعتماد الدولة عليها كمصادر أساسية للدخل.
3. التهمت الشهية المفرطة لتسهيل قوانين الاستثمار قدرة الدولة على المحافظة على منشآت اقتصادية تؤمن لها مستوى مقبولاً من الدخل السيادي، وبالتالي تنويع الخيارات السياسية.
4. أحد التبريرات التي قدّمها الأردن (وكذلك مصر) لتوقيع اتفاقيات التطبيع كان العمل على تخفيض الإنفاق العسكري لمصلحة الإنفاق المدني، وبالتالي إنعاش الظروف الاقتصادية للمواطنين.
رصد الأردن، بداية عام 2024، الميزانية العسكرية الأكبر في تاريخه (ما يقارب مليارين دولار)، وهو ما يشكل ما يقارب 12% من إجمالي الإنفاق. إن تعاظم توصيات واشنطن برفع الإنفاق العسكري في الأردن هو مؤشر على طبيعة الأدوار التي تريدها له، وطبيعة الإنهاك المرافق لها للاقتصاد الأردني.
5. إذا كانت الولايات المتحدة تريد ولادة "الناتو العربي"، في أسرع وقت، فهي تريده من أجل تكريس مزيد من الوقت الأميركي في ساحات أخرى من العالم. وعندها سيجد الأردن نفسه الحلقة الأضعف في حلف فرعي يبرع في أن يطلب إليك أن تنفذ ما يعمل ضد مصلحتك، وسيجد نفسه أمام متطلبات إسرائيلية وأخرى مصرية وخليجية سوف تدخل الأردن في دائرة الاستنزاف.
6. عندما يأتي الأمر إلى إعادة رسم الخرائط وفق المزاج الأميركي، لا يتباين الأردن في شيء عن سائر حلفاء أميركا السابقين. يقول البروفيسور الأردني وليد عبد الحي إن "أغلبية محطات النهش في المشروع الهاشمي كانت بفعل أظافر حلفاء الأردن التقليديين وأنيابهم، وهو ما يستدعي الاستعداد – بهدوء وروية وعلى مدى زمني معقول – لنسج خيوط علاقات ومصالح سياسية واقتصادية وثقافية متبادلة ومتوازنة مع قوى دولية وإقليمية صاعدة، وليس من مصلحتها استمرار اتجاه النهش والتأكّل التاريخيين".
البقاء الأردني في خريطة التحالف الحالية ينطوي على مغامرة كبيرة. وإذا كان الأردن يمتلك ورقة "الجوكر" الحاسمة، فهي النخبة المتعلمة والمثقفة، والتي تعرف أين يبدأ طريق الخروج!
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة