التحوّل الصّينيّ وتحوّل العالم
ما زالت التجربة الصينية تلفت الأنظار إلى أسباب نجاحها وماهية تحول المكانة الصينية داخل النظام الدولي في العالم. ويبدو أن كلّ ذلك بحاجة إلى دراسة معمقة في ملامح التغير الذي طرأ على الصين منذ العام 1978م، وقد صدر كتاب عالم المستقبليات الدكتور وليد عبدالحي بهذا الخصوص في العام 2000م، بعنوان "المكانة المستقبلية للصين في النظام الدولي 1978- 2010".
يمكن القول إنَّ برنامج التحديثات الأربعة المطروح في العام 1978م، زرع الأعمدة الأربعة الأهم في مسيرة التحول؛ الزراعة والصناعة والبحث العلمي والدفاع العسكري.
(1) في الزراعة، قدم النموذج الجديد عامل التحفيز الفردي، مضافاً إلى راتب نموذج ماو تسي تونغ الذي يصرف لكل فلاح، الأمر الذي ضاعف معدل النمو في القطاع الزراعي، عندما وعدت الدولة الفلاحين بحرية التصرف بالإنتاج الفائض عن كوتة الدولة.
(2) الخطة نفسها تم اتباعها في القطاع الصناعي، على اعتبار حرية التصرف بالقطع الفائضة عن حصة الدولة من الإنتاج، وبذلك لم ينخفض معدل النمو في الصين عن 7%، وكثيراً ما عانق نسبة 12%، وهي نسب عالية جداً لاقتصاد ضخم.
(3) أزاحت الصين الولايات المتحدة عن صدارة البحث العلمي في العالم، بمجمل 528 ألف ورقة بحثية في العام واحد، كما أنَّ الإنفاق الصيني على البحث العلمي تضاعف 123 مرة خلال 25 عاماً. من هنا، يمكن القول إنَّ رواية الهندسة العكسية وسرقة براءات الاختراع انتهت. والآن، الصين تقود فعلاً مبادرات البحث العلمي في العالم.
(4) الجيش في دول مثل الصين، من الجنون غزوها عسكرياً في عصرنا. ولذلك، عملت الصين على تحويل الجيش إلى مؤسَّسة اقتصادية تنموية تساهم بنسبة 37% من الاقتصاد الصيني. وبالتوازي، إن الإنفاق الدفاعي في الصين لا يلتهم أكثر من 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي لاقتصاد الدولة، الأمر الَّذي يعني أنّها دولة غير مرهقة وغير مهووسة بالتسلّح على حساب الاقتصاد الداخلي.
في التغيير الداخلي في الصّين، كان السؤال الأكثر راهنيّة وإلحاحاً: من أين نبدأ؟ هل نبدأ بالتغيير السياسي (الصحافة وتعددية الأحزاب...)، أم من التغيير الاقتصادي، أم بهما معاً؟ اتجه القرار الصيني إلى ناحية البدء بالتغيير الاقتصادي، الأمر الذي حقَّق فعلاً نجاحاً في توسيع القاعدة الشعبية المؤيّدة لنظام الحكم، وعدم التركيز على الجوانب السياسيّة الداخليّة التي تفضّلها المراكز الغربيّة عادة، لأنها أداة فعالة في تفكيك المجتمعات، وتحديداً عندما تكون على قاعدة اقتصادية هشّة وضعيفة.
في كلّ الأحوال، لم تتجاهل الصّين التغييرات السياسية الممكنة في مؤسَّسات الحكم، فعمدت إلى رفع مستوى المؤهّلات العلمية في صفوف اللجنة المركزية للحزب، ومنعت تراجع النسبة تحت أيّ ظرف، وغذَّت هذه اللجنة بعدد كبير من الكوادر التكنوقراطية المدرّبة.
خارجياً، وعلى مستوى العلاقات الدولية، اتبعت الصين شعار المؤتمر الحادي عشر: "ليس مهماً لون القطّ. المهم أن يصطاد الفئران"، بمعنى أنَّ الصين ليست مهووسة بالصبغة الإيديولوجية، وليست مهووسة بالمرويات عنها، وكيف يراها الآخرون، اشتراكية أم رأسمالية.
على هذه الأرضيّة، دخلت الصين منظومة العولمة، ولم تنكفئ عنها، وإنما شاركت فيها، ولكن بناءً على ضوابط تمثلت في الحضور المكثف في المؤسسات الاقتصادية ذات العمر الأطول من المؤسسات السياسية والعسكرية (قارن بين المنظمات التجارية والناتو على سبيل المثال).
كما دخلت الصين منظومة العولمة، والنظام العالمي بكليّته يتجه من منطق المعارك الصفرية إلى المعارك غير الصفرية، وهذه الحالة من النظام العالمي تناسب دولة مثل الصين أكثر من الولايات المتحدة، التي تعتمد في مجمل حركتها على الحرب والسلاح (نموذج لعبة المجموع الصفري).
يمكن القول إنَّ الصّين التقطت بذلك المعادل الأخلاقيّ لما أنتجته الحروب!
واحدة من المعايير المهمّة في مشاركة الصين في منظومة العولمة، هي الاعتماد على توسيع دائرة المصالح المشتركة على حساب المصالح المتناقضة، وهذا يظهر واضحاً في مبادرة الحزام والطريق التي تضم دولاً ليست على علاقة متينة بالصين، ومنها الهند.
قد يتساءل البعض: ما هي مصلحتنا في الانتقال من المظلة الأميركية إلى المظلة الصينية إذاً؟ تكمن الإجابة في أنَّ شروط التعاون الصيني، وأهمها شروط الاستثمار، كعامل مساعد للتنمية، هي مسألة ممكنة مع الصين، ومستحيلة مع الولايات المتّحدة!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً