قبل 3 سنە
محمّد فرج
363 قراءة

ضباب "الديمقراطيين".. تنسحب القوات أَمْ تبقى؟

ما إن يصل "الديمقراطيون" إلى البيت الأبيض، حتى يبدأ العمل بجدية على إدخال العالم في بحر من الظلمات، يلتبس على المحلّلين وأصحاب القرار معه استنتاج المقصد والمعنى من الإجراءات والقرارات والتصريحات الصادرة عن الإدارة الأميركية.

الضباب الكثيف الذي عادة ما يطلقه "الديمقراطيون" في الولايات المتحدة هو سبب الفرحة عند كثير من السياسيين والمفكّرين المناهضين لسياسة الولايات المتحدة، عندما يفوز في الرئاسة شخص يشبه دونالد ترامب، بصلافة وبوضوح يسمي الأشياء بأسمائها، بما في ذلك الاعتداء والسيطرة. 

ما زلنا نتذكر حالة الشواش التي أنتجتها موجات "الربيع العربي". تساءل الجميع كيف بدأ كل ذلك، وكيف تسارعت الأحداث على نحو دراماتيكي. كانت إدارة "الديمقراطيين" تصوغ تصريحاتها برأس إبرة، وتُطلقها كموجة من الضباب الكثيف: "الولايات المتحدة تدعم مطالب الشعوب، حتى لو كان ذلك ضد الأنظمة الصديقة". أن تحقق نتائج الهيمنة (بما فيها القتل) مع زرع إحساس بالصداقة في رأس الآخر، هو العنوان العريض لسياسة "الديمقراطيين"، وطريقتهم الخاصة في الإدارة بصوت منخفض.

مرّت جولات "الربيع العربي" في عشرية كاملة، وتظهّرت نتائجها الكارثية، والتي جنتها الولايات المتحدة الأميركية ثماراً بهدوء. يعود جزء من ذلك إلى ضباب "الديمقراطيين" الذي عمل "ساتراً دخانياً".  

على سكة مماثلة، تُطلق إدارة بايدن موجة جديدة من الضباب في ما يتعلق بوجودها العسكري في الشرق الأوسط. فمع تركيزها المعلَن في التصريحات الرسمية ونصوص الاستراتيجيات المكتوبة على مواجهة الصين وروسيا، أعطت في بداية مشوارها "انطباعاً" عن خُطط انسحاب أو مغادرة كاملة من المنطقة، ولاسيما مع إشاراتها المتعددة إلى أن مهماتها "الإنسانية" في كثير من القواعد انتهت، والأهداف تحقَّقت. 

تجنباً لانعدام الرؤية، كالذي عمّ المجتمع السياسي في بدايات "عشرية النار"، بات من المهم أن نراجع ونفكك بدقة، ما الذي تفعله القوات الأميركية أصلاً: هل تنسحب؟ هل تبقى؟ هل تبقى في صيغة جديدة؟ ما هي أهدافها القديمة؟ هل تحقّقت؟ هل ثمة أهداف جديدة؟ 

الأهداف الاستراتيجية العامة غالباً لا تتغير إلاّ في زوال مبرّراتها، لكنّ آلية تحقيقها هي التي تتغيّر، كما تظهر دائماً أهداف جديدة انسجاماً مع عالم متغير.

الربح وإعاقة التنمية لمشاريع أخرى، هما القدمان اللتان قامت عليهما فكرة الوجود العسكري الأميركي هنا أو هناك، في العراق أو أفغانستان. تحت هذه المظلة تتبدّل الأولويات وتتغير طبيعة التحديات.

المسار الأفغاني 
بعد انهيار البرجين التوأمين في نيويورك، لم يكن جورج دبليو بوش ليتردد في القول "لقد جاءتني رؤيا واضحة في المنام، سوف أذهب إلى أفغانستان". حلّق الطيران الأميركي لغزو البلاد، وبدأت رحلات نقل الجنود. ولأن الخوف سيد الأحكام، ولأن مشهد البرجين استُثمر حتى اللحظة الأخيرة، صفّق الأميركيون وداعاً للجنود! 

في عام 2001م، في عالم كان يعاني اختلالَ التوازن، كل ما كانت الولايات المتحدة تحتاج إليه من أجل إشعال حرب ما، هو اختراع قيمة أخلاقية لتلك الحرب، فكان غزو أفغانستان "حماية لكل البشرية من الإرهاب"، ونشراً للديمقراطية فيها.

لكنْ، في حقيقة الأمر، لم يكن الانتقام من "القاعدة"، ولا ترويض أفغانستان، ولا "الحرب على الإرهاب" أو نشر الديمقراطية، هي الأهداف الحقيقية من حرب ضخمة كتلك.

ثمة أسباب كانت أكثر أهمية وأثقل وزناً، وأحمالها تتوزَّع على روسيا وإيران تحديداً (لم تكن الصين حينها في عين الولايات المتحدة إلاّ قوة ميركانتيلية ناشئة، مُفيدة في تزويد كمّ هائل من السِّلَع الرأسمالية والاستهلاكية بأسعار رخيصة؛ إنها باختصار مصنع المهمات المكرَّرة لإنتاجات الشركات الأميركية الضخمة. لقد كان ذلك خللاً فاضحاً في التقييم والاستقراء، تندم الولايات المتحدة اليوم عليه بشدة).

بالنسبة إلى روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تحمّس "الناتو" لاستقطاب كل الدول الأعضاء في "حلف وارسو" المضاد سابقاً، فتمّ تأسيس مجلس تعاون شمالي الأطلسي لغايات التواصل مع هذه الدول (هنغاريا، التشيك، رومانيا، دول البلطيق). وبعدها، تم العمل على إطلاق مشروع الشراكة من أجل السلام، وكان الهدف تطويق روسيا بصورة كاملة (قواعد لـ"الناتو" في الجوار القريب، إبعاد روسيا عن أوكرانيا بصفتها الشريكة الديمغرافية الأكبر، حرمانها من اقتصادات الطاقة المشتركة في آسيا الوسطى).

مع وصول فلاديمير بوتين (المبهَم تماماً آنذاك بالنسبة إلى الإدارة الأميركية)، بدأ المشروع الروسي تفكيكَ هذا الحصار (وصل ذلك إلى حدّ التهديد من جانب بوتين باستخدام السلاح الاستراتيجي، الذي يعني عملياً السلاح النووي)، فكانت أفغانستان، الجوار البعيد، خِياراً معقولاً، كبديل عن مشروع "التطويق القريب" الذي سهَّلته مرحلة يلتسين، وأجهضته مرحلة بوتين.

القُرب الجغرافي من الثورة الإسلامية هو الآخر هدف أميركي مشتهىً منذ عام 1979م. اعتقدت الولايات المتحدة أن وجود القوات الأميركية على مقربة من إيران، "شرقاً هذه المرة"، سيعطيها فرصة لأعمال استخباريّة وجَمع معلومات ضد الثورة الإسلامية، وإثارة حالة من التشنج مع "طالبان" أيضاً، قد تُرغَم معها طهران على التساوق مع المشروع الأميركي لاحتلال أفغانستان، الأمر الذي يمكن أن يفتح جسور تعاون وَفْقَ مزاج المصالح الأميركية لاحقاً (وهذا ما لم تتجاوب معه طهران).

اليوم، يشكّل "الخروج" الأميركي من أفغانستان حالة مثالية أفضل من البقاء فيها، للأسباب التالية:

أولاً: المغادرة تعني سيطرة الطرف الأقوى محلياً على البلاد؛ أي "طالبان". كانت الولايات المتحدة تعتقد أن هذه السيطرة سوف تفرز تداعيات تُقلق طهران وموسكو، وتضعهما في ظروف أمنية متوترة تستنزف طاقات البلدين. يبدو الحوار الأفغاني في موسكو وطهران مفاجئاً للإدارة الأميركية، التي راهنت على مفاعيل أقسى لـ"طالبان" على البلدين (إيران وروسيا).

ثانياً: تركُ القوات التركية بديلاً عن الأميركية على الأرض، يساعد الولايات المتحدة على تأسيس خيارات بديلة لها في الميدان، مع بقاء القرار لمصلحة قواتها هي. هي نزعة جديدة تجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها اليوم في أمسّ الحاجة إليها: الاعتماد على الوكلاء في مهمات أوسع، مع بقاء القرار الاستراتيجي (ما يُطلَق عليه التدريب والاستشارة) في يدها هي. هو النمط نفسه، بالمناسبة، الذي دفع الولايات المتحدة إلى نقل "إسرائيل" إلى المنطقة المركزية "CentComm" في قوات "الناتو": "على الوكلاء تحمّل مزيد من الأعباء".

ثالثاً: إعادة التموضع في آسيا الوسطى يبدو هدفاً جيداً، ولاسيما مع حاجة مشروع الحزام والطريق إلى هذه المنطقة، كواحدٍ من الممرّات المركزية.

المسار العراقي
في الحالة العراقية، تسير الأمور على سكة تاريخية مُغايرة، لكنها تعمل وَفْقَ المنطق نفسه. فبعد تحقيق أهداف النهب التي شارك لأجلها مئات الألوف من الجنود، تظهر اليوم أهداف جديدة، وتبقى أهداف قديمة لم تتحقَّق بعد، ولم تفقد مبرّرات وجودها:

أولاً: العراق هو نقطة جغرافية قريبة من إيران، "غرباً هذه المرة". وهو ورقة ضغط يَرُوق للولايات المتحدة استمرار التلويح بها.

ثانياً: ثمة هدف أميركي في تقوية تيارات سياسية محدَّدة في بغداد والشمال، ودفعها إلى حدود التقارب مع "إسرائيل". وهو الأمر الذي تؤدّي فيه فصائل المقاومة عاملَ الفرملة الأكبر، في مواجهة الرعاية الأميركية لـ"مصالحة" تطمح إليها كل من "إسرائيل" والولايات المتحدة. 

ثالثاً: بقاء عدد كافٍ من القوات هو عامل مساعد على تنشيط ظهور "داعش"، عند الطلب. 

رابعاً: وجود عدد كافٍ من القوات لمراقبة نشاط قطاع الطاقة، مع التحوّلات التي حدثت مؤخراً، لمصلحة كوريا واليابان وروسيا والصين.

عندما "تغادر" الولايات المتحدة أفغانستان، يجدر بنا أن نسأل: إلى أين ذهبت، ومَن حلّ محلها؟ وعندما تعلن تخفيف كوادرها أو تغيير طبيعة مهماتها في العراق، يجدر بنا أن نسأل: متى يتم تفكيك القاعدة القتالية من بنيتها التحتية، لا لشيء إلاّ لأنها واحدة من القواعد الأميركية الجاهزة لاستقبال آلاف الجنود مجدَّداً، في ليلة واحدة.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP