وليد المعلّم.. صياغة الخطاب الهادئ
إضافةً إلى كون الراحل وليد المعلم دبلوماسياً مخضرماً يجيد التفاوض السليم من موقعه في وزارة الخارجية، فالرجل مثّل أيضاً حالة إعلامية وخطابية مطلوبة في زمن الحرب، عنوانها الهدوء في إدارة الأزمات والتصريحات الصادرة بصددها، الأمر الذي كان غائباً عن وجدان العرب المأخوذ بالخطب الرنّانة والتطمينات الواهمة في مناسبات سابقة قاسية، والتي اختفت مع تحقّق الكارثة والصدمة (احتلال العراق نموذجاً).
في المؤتمر الصّحافي الذي تحدَّث فيه المعلم عن قانون "قيصر" في شهر حزيران/يونيو الماضي، لم تحمل لغته مفردات مغلّظة، واعتمد مفردات بسيطة وسلسة لتفكيك المشهد، وحمل الموقف على تراكيب لا تحمل المبالغة. قدّم السبب الأساسي الذي حفَّز الأميركي على تفعيل القانون، وهو تجويع الشعب السوري، ومحاولة فتح باب الإرهاب مجدداً، ولجم سوريا عن مقاومتها مشاريع الأسرلة و"صفقة القرن"، ودعمها المقاومة. وبذلك، أنهى أوهام رواية "الضغط لغايات الانفراج" ومختلف أشكال الخطاب التي حاولت وضع القانون في خانة الصديق للشعب السوري!
لم يخفّف المعلّم من أثر القانون المتمثّل في إغلاق المنافذ المالية على الدولة السورية لشراء احتياجاتها، بما في ذلك لقاح كورونا في حال اعتماده، وفي الوقت نفسه فكّك غايات التهويل الإعلامي له، الهادف إلى تصوير القانون كضربة قاضية للدولة السورية!
إنَّ تقييم الوزن الحقيقيّ للقانون انطلق من تجربة سوريا الطويلة في مواجهة العقوبات منذ العام 1978م، مروراً بقانون محاسبة سوريا، وليس انتهاء بقانون قيصر. ولذلك، اعتبر المعلم أنَّ مواجهة القانون ليست مسألة مستحيلة، وإن لم تكن سهلة. من هنا، يمكن الاستناد إلى مبدأ "تحويل الخطر إلى فرصة" الذي عرج عليه المعلم، في اعتبار القانون حافزاً إضافياً للدولة السورية لتعميق أسس الاكتفاء الذاتي في اقتصادها، صناعياً وزراعياً بالدرجة الأولى، وتصليب شبكة التحالفات الإقليمية والدولية التي تتعرّض أقطابها، هي الأخرى، لعقوبات مماثلة.
إنَّ هذا التّوضيح لا يعبّر عن خطاب شعبوي بأي حال من الأحوال، وإنما يستند إلى تجارب واقعية معيشة، أولها في سوريا نفسها، وثانيها في إيران، التي قفزت صناعياً في ظلّ العقوبات المتتالية عليها، وثالثها في روسيا، التي صرحت في أكثر من مناسبة على لسان رئيسها فلاديمير بوتين، بما يتوافق مع تصريحات المعلم. يمكن في هذا السياق اعتبار مصر الحالة المعاكسة التي سقطت في فخ الديون، وضربت قطاعاتها الإنتاجية وزراعتها، بعد أن طاردت وهم "الانفتاح"، وخرجت من المشروع الناصري "المُعاقب" إلى المشروع الساداتي المتوافق مع المصالح الأميركية.
في المعارك، خطاب الغرائز لا يكفي، والشحن العاطفي لا يحلّ وحده عقدة الحرب. ساهم المعلم في صياغة خطاب رسمي توضيحي وتحليلي، ومن ذلك تفكيك مبررات الوجود الأميركي، بتركيزه على مناطق النفط وحرقه القمح في منطقة الجزيرة، وتهديد الدول التي تشارك في إعادة الإعمار، وتأمين ملاجئ آمنة لداعش من سوريا إلى العراق...
"هم ببساطة يكذبون لأن المستهدف هو الشعب السوري"!
في معرض حديثه عن الموقف الكردي، قال: "سوف تستيقظون ولن تجدوهم. ببساطة، لأنكم لستم من اهتماماتهم. اهتمامهم الوحيد في المنطقة هو إسرائيل" في إشارة إلى الأميركيين، وهو بذلك ينتقل من خطاب التخوين القاسي إلى خطاب عقلاني وتوحيدي وشامل. إن الثقافة العربية المشبعة في شقّ منها بالثأر والغلبة، لم تشكّل قاموس الرجل في مسألة حاسمة، كالمسألة الكردية، وغلّب في تصريحاته التركيز على العامل الأميركي قبل أي شيء آخر.
لم تخلُ تصريحاته من السخرية الناعمة، كعدم معرفته ببومبيو، أو إشارة يده بهدوء عن جيفري، باعتباره صغيراً على التهديد. عادةً ما يراهن البعض على المسؤولين المتخرجين من الدول الغربية، أو الذين خدموا فيها فترات طويلة كدبلوماسيين، وجوهر الرهان هو اعتبارهم حلقات رخوة في أنظمة بلدانهم. في كل الأحوال، كسر المعلم المثال الرائج، بعد أن مثل الشخصية الأكثر استفزازاً للأميركي.
الصورة الفريدة التي قدَّمها المعلّم تكثّفت في الخطاب الذي لم يكن شعبوياً، ولم يكن غرائزياً، وإنما عقلانياً، وتفكيكياً وتوضيحياً، ولو بسخرية أحياناً.
صاغ المعلم خطاباً هادئاً، محمولاً على تردّد صوتيّ منخفض، وإيقاع بطيء، لكنَّ نتيجته في المحصّلة كانت الأسرع والأكثر جدوى.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً