الجزائر...الدول المطبّعة و"أحلام العصافير"
إنّ واقعنا في الجزائر ليس بسيءٍ،وحضورنا في منظومة السياسة الدولية يضاهي البلدان التي تدّعي صنع القرارالدولي، ولكنّنا خارج خارطة المطبّعين الخونة. حتى وإن بقينا لوحدنا، فنحن لنا مواقفنا التي رسّخها شهداؤنا، وعليها مؤتمنون. ربما نكون خارج الوجهة إعلامياً، ولكنّ حضورنا في الداخل الفلسطيني هو بمنزلة مقدّساتٍ وأرضٍ وشعبٍ وواقعٍ مستدام، يؤخذ بجديّةٍ في الثّبات وفي الظّروف الحرجة كتلك التي نشهدها حالياً. إنه واقعٌ مريرٌ أنشأه منافقو التطبيع، ونحن ندفع ثمن قناعاتنا الراسخة، لأنّنا لا ننتمي إلى دول الحريق العربي، ولأننا بمعيارنا السياسي ملتزمون ومنذ أمدٍ بعيدٍ بالقضية الفلسطينية، والقضايا الإقليمية والدولية، في إطار ما نؤمن به ونلتزم بفحواه.
إنّ السياسة بالأساس لا تمتّ إلى الأخلاق بِصِلَة، إنها مجموعةٌ من المصالح. وإذا تداولها ذوو المبادئ، حينها، تُمارَس بأخلاقٍ تتجلّى في اتخاذ المواقف. وهذا ما نؤمن به ونتمنّاه لغيرنا ممّن بقي في الأمة العربية خارج دائرة "الصّهينة". لذلك، حين ننظر إلى مواقف الدولتين الروسية والأميركية، نرى اختلافاً شاسعاً بين سياستهما: فالأولى تمارس السّياسة الدولية بمنطق القانون الدولي وتسعى إلى احترامه، وهي مناصرةٌ للقضايا العربية. وفي الجهة المقابلة، نرى أميركا تخرق كلّ القِيَم، وتبغي الهيمنة على حساب المبادئ، بما فيها ميثاق الأمم المتحدة، وتسعى إلى إشاعة الفوضى والحرائق المؤدّية إلى انهيار الأنظمة، وتعمد إلى التواري المبرمج لإزاحتها من الخارطة نهائياً، أو على الأقل إخضاعها لمبدأ التقسيم إلى دويلات "كانتونية". ومع ذلك، تسعى دول التّطبيع إلى السّير في نهجها، وتلهث وراء سرابها بقيادة "كوشنير" الصهيوني المتطرّف من الخليج إلى المغرب.
العين شاخصةٌ الآن على الجزائر، لكنّ الأمة الجزائرية التي تملك في رصيدها الجهادي أكثر من سبعة ملايين لتر من دم الشهداء، وما يضاهي قرناً من التضحيات في خط المقاومة، لا يمكنها أن تكون خارج التاريخ والحضارة، ولن تسقط أمام أيّ عدو. إنّ تفسيرالأحداث من وجهة نظر المناهضين للتطبيع، يؤكّد أنّ التطبيع لا يتناقض ومعطيات السياسة الدولية فحسب، بل هو مغامرةٌ دمويةٌ تنهل وجودها من حفريات الواقع، وتستمرّ رغم استحالة نجاحها.هذا ما حدث للوجود الأميركي في ليبيا، حيث المشهد الدموي انتهى بقتل السفير الأميركي ومن معه فيها. هذا الحدث سيتكرر لا محالة في الدول المطبّعة لأنّ الرؤية واحدة والمشهد واحد.
هذا العنوان بدّد الظّنون والأوهام التي كانت تأخذ بهما الولايات المتحدة الأميركية في ابتكار"الربيع العربي" الذي قاده الأعراب بأموالهم ودماء أبنائهم، فألغى القرار السياسي على مستوى الجميع، وليس على المستوى الأميركي فحسب. وبقي موقف الجزائر العنصرَ المحيّر الذي لم تنجح في تحليله الأجهزة الأمنية ومراكز الأبحاث بعد. يتساءلون عن تفسيرٍ لسياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها الجزائر بعيداً عن الألغام التي أُحيطت بها مند بداية "الربيع" المشؤوم، بحيث عمدت اليوم إلى تحييد نفسها عن المغرب. بالنسبة للجزائر، لقد أساء المغرب في قراره التطبيعي الذي سمح لـ "إسرائيل" الاقتراب من حدودها.
إنّ الإمبريالي الفرنسي"ساركوزي" أسر قرار محمود جبريل بتعيينه عضو المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا. ذاك العام، كانت ليبيا ضحية المؤامرة، والعام المقبل قد تكون الجزائر. لذا، كانت المخابرات الجزائرية ترصد كلّ كبيرة وصغيرة في أقوال "ساركوزي" و "هيلاري كلنتون"، وتراقب ما يدور في ليبيا. قال محمود جبريل آنذاك حول لقائه مع هيلاري، أنها طلبت منه ومن أنصاره بإصرارٍ "نموذجا طوباوياً" - فرض الديمقراطية وسيادة القانون في ليبيا- وقد حصلت على وعدٍ بذلك، مقابل تزويد المعارضة بالسلاح. وبذلك، تكون هيلاري كلينتون ورئيسها، قد أوصلا ليبيا إلى الواقع الذي تعيشه حالياً.
يرى البعض أنّ الجزائر، بتجربتها المخضرمة، تعرف أين يكمن الخطر وأين الحلّ فيه، فسارعت إلى أخذ الحيطة والحذر أزاء اللعبة السياسية، وفق إمكانياتها وظروفها المتاحة. ويعتبر البعض الآخر أنها لعِبت دور المفسّر للتاريخ، قبل أن تندلع هذه الصراعات، بما توفّر لديها من معطياتٍ ومعلومات، آخذةً بنظرية تذليل الفرص المريبة والمتاحة للآخر، واستنهاض التاريخ كدليلٍ، وسط تراكمات الحاضر؛ فكان هذا وذاك، أي الاثنان معاً.
إنّ الجزائر التي لا تؤسّس لمراحلَ جديّةٍ من دون عطاءات الماضي. إنها تؤمن بأنّ قوة التاريخ هي العنصر الأهم في مواجهة التحديات. فالقرآن الكريم، حين يوجّهنا ويكشف لنا تاريخ الأمم السابقة من حيث صعودها وسقوطها، وحتى فنائها، يؤكّد لنا أنّ كلّ شيءٍ (سواءٌ كان سلبياً أو إيجابياً) يخضع للسياقات التاريخية، إذ هي بمثابة الفانوس الذي يضيء لنا الطريق لنفقه أين نسير. وإذا كان ذلك مبدأٌ عام ودليل مرجعيّةٍ في عملية البناء وإعادة البناء في سياسة الجزائر، فإنّ التشبّث به بات أكثر من ضرورة.
نحن هنا، لا نبرّر الواقع، ولكننا نفسّر المواقف العامة ،لأن غالباً ما يكون شاذاً وخارج دائرة التأثير، إلاّ بنسبةٍ ضئيلة. فالخيانة لا تكمن فقط في سوء التقدير لدى مسؤولٍ هنا أو هناك، بل هي ظاهرةٌ جزئيّة تتوارى خلفها أخطارٌ متعدّدة الأشكال والألوان. لذلك، حين نؤكد أننا أمام مفترقٍ سياسيٍّ تصاعديّ البناء والتفكير، ليس لأننا جزءٌ من شجرةٍ أوراقها خضراء لطائفةٍ على حساب الكلّ، بل لأننا نقرأ الواقع بمتغيّراتٍ شاملة تمسّ اليوم كل أمم الأرض.
اليوم، نحن ندخل مرحلة عالمٍ جديد، لم تعد فيه الهيمنة الأميركية تتفرّد بشجرة التفاح. لكنّ هذا المتغيّر يحتاج إلى زلزالٍ لأنّ أحداً لا يقرّ بالهزيمة، فالتغيير له ثمن، ومع الأسف، هذا الثمن تدفعه اليوم الدول العربية، فيُزهق الأرواح ويدمّر البنى التحتية. إنّ الذين يصنعونه ليسوا خارج تحطيم وجدان الشعوب بواسطة الطائفية أو الحروب الداخلية، وأخيراً التطبيع. من المؤسف أن تكون الجامعة العربية هي المحرّك الأوّل لهذه الحروب، بسيطرة بعض الأغبياء عليها ممن تأخّر بهم التاريخ، أو جعلوا تاريخهم أسيرَ جهاتٍ لا تؤمن حتى بوجودهم كبشر(وتعتبرهم بمنزلة البقرة الحلوب) خارج منطق الاستعباد. ليس المهمّ هنا البكاء على الأحداث وأطلالها، لكن يجدر أخذ العِبَر والاحتكام إلى حقائقها وكيفية اللجوء إليها لإنقاد الواقع من مؤامرات المطبّعين. وبالتالي، يجدر عدم الجنوح إلى التطبيع بمطالب تُستخدم أداةً للتصدّع.
إنّ الجزائر، ببريق ماضيها أوّلاً، وبوفاء أبنائها ثانياً، استطاعت أن تفلت من منعرجات التاريخ المصطنع، تاريخ الديمقراطية المصدَّرة كعلب السردين، والمفروضة بقوةٍ "الولاء الأعمى للأميركي، ومن ثمّ الإسرائيلي. وهنا، أعتقد أن الكلّ متّفقٌ على مبدأ أنّ الحرية التي نملكها في الجزائر اليوم، إن على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، تضاهي ما تملكه أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية. نحن لا ندّعي ذلك، لكنّنا نؤمن به كشاهدٍ في التاريخ، وكحاصلٍ أساسيٍّ في المنظومة السياسية. إنّ الذين يميلون إلى غير هذا المنطق، هم إمّا متعطّشون للمسؤولية، أو فشلوا فيها سابقاً، أو تنقصهم القراءة الواعية للواقع. فالنّقد البنّاء يحترم الأصول الأخلاقية للإنسان والمجتمع ويحافظ على قيم الأمة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً