أميركا وفرنسا.. الخطأ والتّاريخ
ليس هناك زلزال سياسيّ مثل الزلزال الذي أحدثته سوريا وهي تواجه حرباً كونية تقودها أميركا والغرب وبعض الأعراب، وهي حرب لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري.
لم تكن الحرب على سوريا إذاً رفضاً لمبدأ التوافق على المصالح بين أطراف إقليميّة ودوليّة، بل جاءت بناء على رغبة أميركية إسرائيلية، لأن الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" - وفقاً لتقارير استخباراتيّة - ستكونان أمام روسيا والصين وإيران خارج اللعبة في الشرق الأوسط. وبالتالي، سقوط نظرية الردع الإسرائيليّ كلياً، إن لم يتمّ إسقاط الأسد ونظامه، وبالتالي أيضاً محور المقاومة.
طلب أحد المفكّرين الإسرائيليين من "دولته" التوجّه إلى الصين، بقصد طلب حمايتها مستقبلاً، لأنَّ أميركا باتجاه السّقوط من الساحة الدّولية كدولة أولى في العالم. وفي السياق ذاته، لم تكن إيران، العملاق السياسي العسكري الصاعد، مجرد حالة استثنائية في الموقف الدولي، بل هي ضمن جدار الواقع كقوة إقليمية، لكن في مساحة أوسع. وقد صارت القوة العسكرية الأولى في المنطقة، ولطالما ظلَّت أميركا ترهب دول الخليج وبعض الدول الأخرى بأساطيلها في المنطقة... حتى إنَّ قائد الأركان الإيراني وصف تلك القوة العسكرية الأولى بأنها "مجرد خردة".
لقد تألمت أميركا من صراعها مع إيران، كما تألمت أشد الألم وهي تواجه سوريا بصمود جيشها وشعبها بشكل لم يكن متوقعاً حتى لدى الدوائر المغلقة المتخصّصة. من هنا، يبدو أن التراجع الملاحظ والسريع في المواقف ينبئ بقوة بأن جل الدول التي لعبت ضد التيار، وحتى ضد حركة التاريخ، تحاول الآن إيجاد مخرج من الحرج الذي وقعت فيه.. ففرنسا التي زوَّدت الحركات المتطرفة في سوريا، ولاحقاً في ليبيا، بالسلاح، صارت تلك الحركات تحاربها، وبالسلاح الفرنسي، في مالي، وقد أوقعتها في شرخ سياسي ربما هو الأول في تاريخها، فهناك تقارير تؤكد أن هناك تمرداً - وإن لم يظهر إلى العلن - في الجيش الفرنسي وبعض قادته، فضلاً عن المواقف السياسة المناهضة للحرب في مالي، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي تهدد فرنسا بكاملها، ربما محاولة فرنسا من كلّ ذلك الظهور بالمظهر العسكري خارج حدودها - في محاولة فاشلة - لإيجاد منطق سياسي لها خارج الحدود، وهي تعلم أن الولايات المتحدة الأميركية لن تكون إلى جانبها في هذا الظهور، لأنها تعاني بدورها من أزمات عدة، وجروحها في حرب العراق وأفغانستان لا تزال دامية، بل إنها تحاول الآن الهروب من ماضيها إلى الداخل، كما أكَّد الرئيس أوباما في خطاباته الأخيرة قبل الرحيل، ثم ما أكَّده الرئيس دونالد ترامب.
ضربة قاصمة للسّياسات الأميركيّة والأوروبيّة
إنّ محاولات الشد على مبادئ حقوق الإنسان من الغرب كلّه، ومن خلفه أميركا، أصبحت أيضاً محاولات غير مجدية، لأنَّ روسيا والصين، ومعهما إيران والهند، ترفض هذا المنطق الممارس بازدواجية، والذي أُملي سياسياً على بعض البلدان، بقصد ضمان المصالح لا حقوق الإنسان، كما تدعي، وأن ما كان معولاً عليه في عمليات التغيير والتأييد لطرف سياسي على حساب أطراف أخرى في كل الأحداث الدامية التي شهدتها دول "الربيع العربي" المشؤوم، أضحى بدوره ضربة قاصمة للسّياسات الأميركيّة والأوروبيّة، ومقتل السّفير الأميركيّ في بنغازي، ومحاولة اغتيال السفير الإيطالي في ليبيا أيضاً، ورد الفعل ضدّ فرنسا في تونس ومالي، كلّها دلائل على أنّ النموذج الاستعماري الذي حاولوا صناعته هو نموذج فوضويّ لا يحترم أية قوة خارجيّة نظامها الاستعماري، حتى ولو كانت من وكلائها في المنطقة، مثل الإمارات أو السعودية... إنّ الأخطر من كلّ ذلك ما كتبته صحيفة "لومانتي" الفرنسيّة بشأن التدخّل الفرنسي في مالي: "تحرّك القوات الفرنسيّة والقوات الأفريقية التي تنضم إليها لن يكون له معنى إلا إذا اقترن بالاستثمار بقوة في تقاسم جديد للثروات في أفريقيا".
إذاً، كلّ الأحداث التي عرفتها المنطقة العربيّة كانت ذات أهداف استعمارية، والقائمون عليها دخلوها كالعميان، والدليل أن فرنسا التي زودت بعض الحركات المتطرفة في ليبيا هي الآن تحاربها في مالي بتلك الأسلحة التي أمدّتها بها.
من المؤكد أن أهداف الحرب المخيفة، وخصوصاً في ما يتعلق بمالي وسوريا، هي أبعد مما يشار إليه، وأقرب إلى التوصيف المطلق للاستعمار تحت أجنحة جديدة، أهمها جناح الإرهابيين، لكن، ولأن التدخّل جاء في ظرف آخر ترفضه دول كبرى، مثل روسيا والصين، جعل كل الأحلام تتبخّر، فقد أكد نائب وزير خارجية الصين لوفد المعارضة السورية الذي زار الصين بقوله: "لن نسمح لهم بالعمل في سوريا كما فعلوا في ليبيا. لقد كذبوا علينا وتعاملوا معنا بطريقة غير محترمة وصبيانية في كل الاجتماعيات التي عقدها الفرنسيون معنا ومع الروس".
لقد قطع لنا آلان جوبيه كل الوعود والالتزامات بعدم السماح بإسقاط النظام الليبي،" لكنهم غدروا بنا، ونحن لم نعد نصدقهم، ولن نسمح لهم باستغفالنا مرة أخرى"، وكان هذا الموقف الصريح والواضح من أشد المواقف الصينية سياسياً.
وقد فهمت أميركا أنَّها لم تعد قادرة على اتخاذ مجلس الأمن مطية لضرب الدول، وخصوصاً سوريا، كما أنها أضحت غير قادرة على أي تدخل عسكري ضد سوريا، لأنها تعرف مدى الحرائق التي تصيب العالم من هذه الحرب ومدى تأثيرها في الاقتصاد العالمي.
إذاً، نحن أمام تحول جديد في الصراع الدولي، تعد سوريا المركز فيه، ونجاحها في الخروج من الأزمة سيحدث حلولاً جديدة لعالم جديد لا مجال للقطب الواحد فيه. وأقول حلولاً، وليس تسوية، لأن العالم بمنظور الحلول التي تنشدها روسيا والصين هي حلول المصالح في المنطقة للجميع، وليس لطرف واحد، وأميركا تعلم أن مصالحها في المنطقة بدأت بالتواري، وأن الحكام في الخليج الذين ظلت تحلم ببقائهم إلى قرون أدوات لها وفقاً لنظرية "الاقتصاد لنا والحماية لكم"، التي تتعامل بها أميركا في المنطقة، هم الآن خارج اللعبة بسبب المطالب الشعبية بتخليهم عن الحكم الريعي... صحيح أن الممكن في الأحداث قد لا يحدث إلا مرة واحدة. ومن هنا، بدأ السباق نحو فك الاشتباك في المنطقة، وبأقصى سرعة، ما دامت إيران دولة صاعدة، ولا مجال أمامها للرجوع إلى الوراء، كما تقول وتؤكد، وسوريا ازدادت اصراراً في الحفاظ على انتمائها القومي، فضلاً عن رفضها الأخذ حالياً بمنطق المواجهة العسكرية ضد "إسرائيل"، ما يهدد المنطقة كلها، وخصوصاً أن روسيا لا زالت تزودها بصواريخ حديثة بإمكانها في حالة نشوب حرب إشغال المنطقة بكاملها، وهذا ما أكدته روسيا وحذرت من خطورته، وأكدته أيضاً الدول المتحالفة ضدها، وخصوصاً أميركا وبريطانيا وفرنسا، فيما ذهبت "إسرائيل" إلى التأكيد أن صواريخ "ياخوم" الروسية الصنع، والمرسلة إلى سوريا، بإمكانها إن نصبت على ساحل لبنان مثلاً، تدمير ميناء إيلات بكامله، فضلاً عن الأسلحة الأخرى.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً