تركيا وفلسطين.. بين السياسة والعقيدة تناقضات كثيرة
تتَّسم السّياسة التركيَّة تجاه فلسطين، عثمانياً وجمهورياً، بسلسلة من التناقضات، ما زالت مستمرة. وخلافاً لما قيل عن السّلطان العثماني عبد الحميد إنَّه لم يعطِ اليهود شبراً من أرض فلسطين، فقد أثبتت العديد من الدراسات التاريخية أنَّه اعترف لليهود بالكثير من الامتيازات، اعتباراً من العام 1890 وحتى إسقاط حكمه في نيسان/أبريل 1909، إذ قام الموظفون العثمانيون ببيع الأراضي وتمليكها لليهود مقابل رشاوى كبيرة.
وزادت حركة الاتحاد والترقي التي أطاحت بعبد الحميد الطين بلة، فسمحت بالمزيد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كما غضّت النظر عن فعالياتهم هناك حتى الاحتلال البريطاني لفلسطين في نهاية العام 1917، حيث كان مصطفى كمال أتاتورك قائداً للفيلق العثماني السابع هناك.
وبعد قيام الجمهورية التركية في العام 1923، غاب الاهتمام التركي الرسمي بفلسطين، على الرغم من التصريحات الرسمية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، ولكن بعيداً من الانتقادات المباشرة لحركات الهجرة والاستيطان الصهيوني في فلسطين.
وبعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك في العام 1938، وانتخاب عصمت إينونو خلفاً له، بدأ الانحياز التركي إلى جانب أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يفسّر اعتراف أنقرة بالدولة العبرية بعد قيامها بعدة أشهر، لتكون تركيا الدولة الإسلامية الأولى التي تفعل ذلك.
وازداد التضامن التركي مع "إسرائيل" والصهاينة بعد انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي وحلف بغداد، وعدائها لمصر وسوريا، وهو ما يفسر استخدام قاعدة "أنجيرليك" الأميركية ضد الحركات القومية في العراق ولبنان والأردن، لتكون زيارة بن غوريون السرية المهمة جداً إلى أنقرة في أواسط العام 1957 الخطوة الأكثر خطورة في التعاون التركي - الإسرائيلي ضد المد القومي العربي. ويفسر ذلك أيضاً دعم الموقف الفرنسي خلال التصويت على استقلال الجزائر في الأمم المتحدة.
وشهدت سياسات الحكومات التركية العلمانية بعد الإطاحة بحكومة عدنان مندرس في العام 1960 سلسلةً من التناقضات التي راعت المصالح الإسرائيلية، بسبب العلاقة مع واشنطن ومنظمات اللوبي اليهودي، كما أولت المزيد من الاهتمام بالقضية الفلسطينية، بسبب الشعور الإسلامي للشعب التركي.
وكانت هناك أيضاً سلسلة من التناقضات، لأن الإسلاميين الأتراك بشتى انتماءاتهم كانوا ضد القضية الفلسطينية، بحجَّة أنَّ ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية الأخرى كانت يسارية ومدعومة من الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي، عدو تركيا، التي ذهب شبابها اليساريون إلى الأردن وسوريا ولبنان، وانضموا إلى المنظَّمات الفلسطينية، وقاتلوا ضد "إسرائيل"، واستشهد البعض منهم هناك.
وكانت حكومة بولنت أجاويد في نهاية السبعينيات هي الحكومة التي غيَّرت الموقف التركي، إذ اعترفت تركيا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وسمحت بفتح سفارة فلسطينية في أنقرة، التي ازداد اهتمامها بقضية الشعب الفلسطيني مع التطورات اللاحقة عربياً وإسلامياً وإقليمياً ودولياً. كل ذلك في محاولة منها لموازنة الدور الإيراني الداعم للقضية الفلسطينية قلباً وقالباً بعد الثورة الإسلامية.
وجاء حكم العدالة والتنمية بعد انتخابات نهاية العام 2002، ليفتح صفحة جديدة في الموقف الرسمي التركي تجاه القضية الفلسطينية، ولكن فيه أيضاً الكثير من التناقضات، فعلى الرغم من الموقف العقائدي لقيادات الحزب ذات الجذور والأصول الإسلامية الإخوانية، فقد زار إردوغان "إسرائيل" في الأول من أيار/مايو 2005، واستقبله شارون في القدس، مخاطباً إياه: "أهلاً بك في القدس؛ العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل".
ولم تتأخَّر منظمات اللوبي اليهودي في واشنطن في الردّ على هذا "الموقف الإسلامي التركي"، فمنحت رئيس الوزراء إردوغان العديد من الأوسمة، ومنها "وسام الشّجاعة السياسية"، تقديراً لزيارته إلى القدس وعلاقته مع "إسرائيل". وكان عبد الله غول بصفته وزيراً للخارجية أول مسؤول تركي يزور مخيم "أتشويز" النازي في بولندا.
واستمرَّ قادة العدالة والتنمية في علاقاتهم مع تل أبيب من جهة، ومنظمات اللوبي اليهودي من جهة أخرى، على الرغم من علاقاتهم مع حماس عبر دمشق، إذ زار خالد مشعل أنقرة في شباط/فبراير 2006، بناءً على دعوة رسمية، إلا أنَّ إردوغان تهرب من استقباله بعد ردود فعل واشنطن وتل أبيب. واكتفى مشعل بلقاء سري مع المستشار أحمد داوود أوغلو، ثم مع وزير الخارجية آنذاك عبد الله غول في مقر الحزب، وليس في مقر الوزارة.
واستمر إردوغان في سياسات التوازن مع الجميع، فدعا شمعون بيريز إلى أنقرة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2007، ليكون أول رئيس إسرائيلي يخاطب البرلمان التركي، وتحدَّث إليه محمود عباس بعد يوم على ذلك، لتكون الأولوية للإسرائيلي، وليس للفلسطيني.
وشجَّعت زيارة بيريز لأنقرة الرئيس إردوغان على التفكير في الوساطة بين تل أبيب ودمشق، مستغلاً علاقاته المميزة مع الرئيس بشار الأسد الذي حذَّره من غدر الإسرائيليين، وهو ما تحقق في نهاية العام 2008، عندما شنَّت "إسرائيل" عدوانها الكبير على غزة، في اليوم نفسه الذي كان من المفترض لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت أن يردّ على الشروط النهائية للتسوية مع سوريا.
كان هذا الموقف الإسرائيلي سبباً لغضب إردوغان، الذي ترجمه عملياً بهجومه العنيف على بيريز خلال قمة دافوس في 29 كانون الثاني/يناير 2009، وكان ذلك بداية التدهور الجدي في العلاقات التركية - الإسرائيلية، التي انتكست جراء العدوان الإسرائيلي على سفينة مرمرة للإغاثة الإنسانية في 31 أيار/مايو 2010، ما أدّى إلى مقتل 9 مواطنين أتراك.
ولم يمنع كل ذلك قيادات العدالة والتنمية من الاستمرار في الحوار السري والعلني مع تل أبيب، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى عدم استخدام أنقرة حق الفيتو ضد انضمام "إسرائيل" إلى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD) في 11 أيار/مايو 2010، كما وافقت أنقرة في أيار/مايو 2016 على افتتاح ممثلية إسرائيلية رسمية في مقر الحلف الأطلسي في بروكسل.
وتبع كل ذلك الاتفاق التركي - الإسرائيلي، بوساطة من الرئيس أوباما، على إغلاق ملف سفينة مرمرة، حيث تبرعت تل أبيب لعائلات الضحايا بعشرين مليون دولار، على أن تسقط أنقرة بدورها كل الدعاوى القضائية المرفوعة لدى المحاكم التركية والدولية ضد المسؤولين عن مقتل المواطنين الأتراك.
وجاء "الربيع العربي" ليضع أنقرة بحكم العدالة والتنمية أمام تحدّيات جديدة، بعد أن قامت بكلّ ما قامت به منذ العام 2011 في سوريا، وهو ما خدم المشروع الصهيوني - الأميركي بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، كما هو الحال في نتائج السياسات التركية الَّتي ما زالت مستمرة في العراق وليبيا ولبنان واليمن والصومال وقطر وتونس، ومن خلال دعم كل المجموعات والقوى الإسلامية، المعتدلة منها والمتطرّفة، سياسياً كان أو عسكرياً، وكانت "إسرائيل" المستفيد الأكبر من كلّ ذلك.
ولم تهمل أنقرة خلال هذه الأثناء التصدي لمشاريع الرئيس ترامب، عندما أعلن القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، إذ دعا إردوغان، بصفته رئيس الدورة الحالية لمنظمة التعاون الإسلامي، إلى قمة عاجلة في 13 كانون الأول/ديمسبر 2017، ثم في 18 أيار/مايو 2018، في إسطنبول، وذلك بغياب العدد الأكبر (أكثر من 40 زعيماً من أصل 57) من الزعماء الذين كانوا على خلاف معه، ومنهم السيسي والملك السعودي ورئيس الإمارات والملك المغربي والأردني والآخرون.
واعتبر البعض موقف أنقرة هذا محاولة جديدة من إردوغان لسحب البساط من تحت أقدام آل سعود، باعتبار أن مقر منظمة التعاون الإسلامي يقع في أراضيهم، إضافةً إلى مكّة المكرّمة والمدينة المنورة. كما كانت الرياض قد تبنَّت كل الحركات الإسلامية منذ نشأتها، بما في ذلك الإخوان المسلمون، الّذين أصبحوا يرون في إردوغان زعيماً روحياً وسياسياً لهم، على الرّغم من تناقضاتهم الداخليّة فلسطينياً وعربياً إسلامياً وقومياً.
ولم ينتبه أحد إلى تناقضات إردوغان، من خلال علاقاته المميزة مع الرئيس ترامب، صاحب "صفقة القرن"، التي هاجمها الرئيس التركي إعلامياً بشدة، كما هاجم الدول الخليجية المتواطئة، ولكن من دون أن يفكّر في أيّ موقف عملي ضد "إسرائيل"، التي سجّلت علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع تركيا في عهده أرقاماً قياسية، مع استمرار مساعي أنقرة السرية لمد أنابيب الغاز من "إسرائيل" إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
وكانت كلّ هذه التناقضات في المواقف الإردوغانية سبباً كافياً بالنسبة إلى الزعيم الإسلامي التاريخي، ورئيس الوزراء الأسبق، وزعيم حزب الرفاه الإسلامي، نجم الدين أربكان، ليشنّ هجوماً عنيفاً على حزب العدالة والتنمية، متهماً قياداته "بخدمة إسرائيل والصهيونية العالمية"، الَّتي يقول عنها الإعلام الموالي "إنها تسعى إلى التخلّص من إردوغان المدافع عن قضايا الأمّة الإسلاميّة، وفي مقدّمتها القدس"، ليكون ذلك التناقض الأكبر في الموقف السياسيّ والعقائديّ والإعلاميّ التركيّ تجاه القضيّة الفلسطينيّة بجناحها الإسلامي الإخواني (حماس)، الَّذي طلب إردوغان من قياداته في العام 2011 مغادرة دمشق، ولولاها - أي دمشق - لما وصلت حماس إلى ما وصلت إليه، ولكانت القضية الفلسطينية فريسة للتآمرات الإقليمية والدولية، وترامب ماضٍ فيها.
وفي جميع الحالات، لا تختلف كل هذه التناقضات التركية كثيراً عن تناقضات بعض الأنظمة العربية، وخصوصاً الخليجية منها، فالجميع لا يريد لإيران أن "تحتكر ساحة القضية الفلسطينية، ومعها ساحة المقاومة اللبنانية" التي يعادونها، والسبب في ذلك بسيط جداً، وهو أن لا تناقض ولا رياء فيها، و"إسرائيل" ترتعد منها فقط!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً