قبل 1 یوم
علي فواز
26 قراءة

هل الحرب حتمية على لبنان؟ (4)

يتعرّض لبنان منذ أشهر إلى حملات تهديد بلغت أشدها خلال المدة الأخيرة عبر ضخ معلومات في الإعلام الإسرائيلي نقلاً عن مصادر أمنية وسياسية تفيد أن الحرب على لبنان باتت محسومة أو تكاد. جرى التعبير عن ذلك من خلال الإشارة إلى أن حملة التصعيد، التي قد تتطوّر إلى حرب شاملة، لم تعد تتعلق بسؤال هل بل بسؤال متى.

وقبل أن تصدر إشارات ترافقت مع زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك الأخيرة إلى "إسرائيل"، والتي تحدثت عن وجود كوابح لهذه الحرب وضغوط أميركية تثني الإسرائيلي عن مواجهة منفلتة الضوابط، كانت مؤشرات الحرب تصل لبنان عبر أكثر من اتجاه. لم تنحصر هذه المؤشرات بتقارير دبلوماسية وبمعطيات مصدرها أوساط مطلعة في عواصم الغرب، بل صدرت مواقف صريحة بهذا الخصوص عن رئيس الحكومة ووزير الأمن الإسرائيليين، بنيامين نتنياهو ويسرائيل كاتس. 

بطبيعة الحال تختلف موثوقية التهديد بين أن يصدر عن جهة رسمية أو عبر مصادر. وإذا كان لا يزال في الإمكان، نظرياً، وضع هذه التهديدات في إطار الحرب النفسية والتهويل أو رفع السقف من أجل جبي أثمان مرتفعة، إلا أنه يتعذّر في الوقت نفسه استبعاد أن تنطوي على مصداقية بنسبة معينة، وأن تكون أهدافها تتجاوز الضغط على لبنان إلى تهيئة الجبهة الداخلية الإسرائيلية لتطورات مرتقبة ولفت أنظار الأطراف الدولية المعنية لأخذ العلم بهذا المسار.

تهويل أم تمهيد؟
في هذا الصدد، أشار نتنياهو إلى أن "إسرائيل" تتجه نحو تصعيد أكبر ضد لبنان عبر "موجات من الهجمات"، فيما كان كاتس حاسماً بشكل غير ملتبس حينما أوضح أن "إسرائيل لن تتردد في العمل بقوة في لبنان مجدداً" إذا لم يتخل حزب الله عن سلاحه قبل نهاية العام.

وأضاف أن "إسرائيل" لا تثق بأن حزب الله سيتخلى عن سلاحه طوعاً، ولا ترى أي احتمال واقعي لالتزام الأخير بشروط الولايات المتحدة التي ألزمته بتفكيك ترسانته الصاروخية حتى نهاية العام الجاري.

بدوره، كان توم برّاك يصبّ الزيت على النار. الأخير أبدى قلقه مراراً من عودة الحرب في لبنان، بما يُفسّر أنه أبعد من مجرد تعبير عن قلق، ويعكس ممارسة ضغوط. في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حذّر الأخير في منشور مطول على منصة "إكس" من أن فشل لبنان في نزع سلاح حزب الله قد يدفع "إسرائيل" إلى تحرك عسكري أحادي، معتبراً أن العواقب ستكون "خطيرة للغاية"، وأضاف أن الجناح العسكري للحزب سيكون في مواجهة كبرى مع "إسرائيل" في "لحظة قوة إسرائيل وضعف الحزب المدعوم من إيران"، في حين سيواجه جناحه السياسي عزلة محتملة مع اقتراب انتخابات عام 2026.

أكثر من ذلك، شدّد على أن التعاون ليس ضماناً للسلام لكنه الطريق الوحيد نحو تفادي الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة.

في الخلاصة، هناك من وضع كل ما سبق في إطار الحرب النفسية وهناك من قرأها باعتبارها إشارات واضحة إلى حرب وشيكة، وبقي قسم متردداً ومترقباً وسط الضباب.

معادلة الجدوى والكلفة
من القواعد التي تؤسس لمقاربة احتمالات الحرب أن "إسرائيل" تنطلق من معادلة ثابتة تحكم قراراتها وخطواتها: الجدوى مقابل الكلفة. 

هذه القاعدة العامة تتجلى بوضوح في الحالة العدائية الإسرائيلية تجاه المحيط المباشر. لطالما وُجدت الرغبة في التوسّع والقضاء على التهديد، وهي رغبة ملازمة للمشروع الصهيوني، سواء تم تفعيلها أو تأجيلها، وهي لا تنحصر فقط بعقيدة توراتية تزعم وعداً جغرافياً إلهياً من النيل إلى الفرات، بل بأهداف قومية خارج إطار الصهيونية الدينية.

الرغبة يحدّها عند صناع القرار الإسرائيليين سؤال يتعلق بالقدرة على تحقيق الرغبة. في حال وجدت القدرة، فإن السؤال التالي يرتبط بكيفية توظيفها بأكلاف معقولة. هنا تجد قاعدة الجدوى مقابل الكلفة ترجمة عملية عبر تفعيل القرارات أو لجمها، وتوجيه الخيارات.

إلى جانب ذلك، وفي ظلّه، يعتمد قرار الحرب الموسعة من جانب "إسرائيل"، على شرطين أساسيين: 

الضوء الأخضر الأميركي، والأوراق والأدوات التي تضمن تحقيق أهداف الحرب بأقل كلفة ممكنة. 

أسئلة عبور إلزامي نحو قرار الحرب
صحيح أن العقلية الأمنية الإسرائيلية تغيّرت بعد السابع من أكتوبر إلا أن الفرص التي وجد الكيان أنها لاحت أمامه بعدما انتقلت المبادرة الاستراتيجية إليه تحدّها مجموعة اعتبارات. وكوننا نجهل ماذا يمتلك الإسرائيلي وماذا يعرف وماذا يخطط وإلى أي درجة يخترق منظومة المقاومة، وفي المقابل، ماذا يعرف حزب الله وكيف يعّد لمواجهة محتملة وماذا يخبّئ، إلا أنه يصحّ الافتراض أن أي قرار باتجاه الحرب يتطلب حكماً الحصول على إجابات دقيقة وحاسمة حول مجموعة أسئلة، من دونها يصبح الذهاب إلى الحرب مغامرة، قد تؤدي إلى تغليب الكلفة على الجدوى. من ذلك:

- إذا وجد حزب الله نفسه إزاء معركة فاصلة وأخيرة أليس من البديهي أن يستعمل كل مقدراته إذا استطاع؟ سوف يقاتل الحزب في هذه الحالة من دون سقوف ويفعّل كل إمكاناته، سواء التي يعرفها عدوّه أو لا يعرفها. ما يمتلكه الحزب في هذه الحالة يمثّل عاملاً مقرراً في دفة الحرب. 

- لم يعد سراً أن الإصرار الإسرائيلي والأميركي على نزع سلاح المقاومة يشي بأن الأخيرة ما زالت تحوز أسلحة "كاسرة للتوازن" تتضمن مسيّرات، إضافة إلى صواريخ دقيقة لم تستخدم المرة الماضية لأسباب غير معلنة. هل وجد الإسرائيلي حلاً لتعطيل هذه الأسلحة واحتوائها ومنعها من تشكيل ضغط على جبهته الداخلية؟

- في هذه الحالة، يتعيّن على نتنياهو ضمان ألا تتآكل إنجازاته التي حققها خلال الجولة الماضية وألا تنقلب نتائج المعركة المقبلة عليه، سواء بتأثير أي فشل في تحقيق الأهداف أو ما يمكن أن ينجم من تداعيات في الجبهة الداخلية الإسرائيلية. فهل تحتمل الجبهة الداخلية الانجرار من جديد إلى أيام قتالية؟ وهل الزخم الناجم عن تداعيات 7 أكتوبر ما زال كفيلاً بتعبئة الجمهور الإسرائيلي نفسياً ومعنوياً؟

- كما يسري سؤال التعبئة على الجمهور فإنه ينطبق أيضاً على وحدات "جيش" الاحتلال وحافزهم للقتال، خصوصاً في ظل عدم وجود أي تهديد عملي قائم ضد "إسرائيل"، ولا حتى في المستقبل المنظور، من قبل حزب الله.

- رغم الصعوبات الداخلية في إيران والاعتبارات الأخرى التي تقيّدها، هل وصل الأميركي والإسرائيلي إلى استنتاجات مضمونة، ألا تتدخل الجمهورية الإسلامية في حال سيناريو متطرف ضد حزب الله؟ يلحّ هذا السؤال بعدما بات معلوماً أن إيران تمثّل الهدف الأساسي في الحرب.

- ماذا عن اليمن الذي سبق أن أعلن أنه سوف يتدخّل في أي حرب مقبلة ضد حزب الله؟ هل المفاجآت واردة أو مستبعدة في هذه الحالة؟ وهل باستطاعة أميركا و"إسرائيل" احتواء هذا الخطر بكلفة مقبولة؟

- ترتبط أي مبادرة عسكرية إسرائيلية واسعة النطاق ضد لبنان حكماً بوجود أهداف. ما هي الأهداف التي يريد الإسرائيلي تحقيقها؟ هل يطمح إلى التخلص نهائياً من مقدرات حزب الله؟ أو يكتفي بإضعافه بما يتيح تثمير الضغوط الأخرى بشكل أكثر فاعلية تسهّل تحجيمه؟ وهل تتضمن الأهداف اجتياحاً برياً أم تكتفي بضربات جوية؟

يحضر في هذا السياق تصريح توم براك الذي قال إنه لا يمكن نزع سلاح حزب الله بالقوة، وتصريح دونالد ترامب الذي قال بأنّ "إسرائيل حقّقت، بمساعدتنا، كلّ ما يمكن تحقيقه بالقوة العسكرية".

- صحيح أنه لا يمكن الاعتداد بكل التصريحات الصادرة عن ترامب ومبعوثه الذي بات يشبهه ويبزّه في انقلاب المواقف، إلا أن ذلك لا يلغي الوقائع المتعلقة بالقوى البرية.

في سياق المناورة البرية لا شكّ أن حزب الله ما زال يمتلك قوات فاعلة وقادرة على الالتحام والقتال "قتالاً كربلائياً". يكتسب هذا العامل أهمية مضاعفة في ضوء ما حصل خلال معركة "أولي البأس" عند قرى الحافة الأمامية، وفي ظل تأكيد رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير أن المناورة البرية تعدّ شرطاً للحسم، وذراعاً لا يمكن الاستغناء عنها وأنها ستكون في خطة العمل المقبلة في مركز الاهتمام. والحسم، وفق النظرية الجديدة، لا يتحقّق إلّا عبر دخول البر، والبقاء فيه، وإحداث تغيير في البيئة العملياتية. في يونيو/حزيران الماضي قال زامير إن "قدرة الجيش على العمل براً تُعد قدرة استراتيجية حاسمة في مواجهة التهديدات في الدائرة الأولى"، في إشارة إلى المحيط الإقليمي القريب من "إسرائيل".

- تعيد أي عملية واسعة إعادة تحريك ملف "إسرائيل" في الإعلام الدولي، فهل تأخذ "إسرائيل" والأهم أميركا ذلك بعين الاعتبار أم تعدها كلفة يمكن تحمّلها، خصوصاً مع تقلص المسافة الفاصلة عن الانتخابات النصفية الأميركية وحاجة الإدارة إلى استعادة ما خسرته بسبب دعمها المطلق لـ"إسرائيل"، عدا عن نزيف شعبيتها على خلفية ملفات داخلية أخرى؟

- يندرج بعد كل ذلك سؤال آخر لكنه ليس معنياً بـ"إسرائيل": إذا كانت الحرب الموسعة لا تنطوي على كلفة عالية، فلماذا امتنعت "إسرائيل" عنها طيلة الفترة الماضية وتركت حزب الله يرمّم قدراته كما تدّعي؟

قد يكون الجواب أنها أرادت إعطاء فرصة لديناميات الداخل اللبناني وتجنّب كلفة أي مجابهة، وقد تكون تقديراتها وصلت في وقت مبكر إلى أن الضغط الداخلي لن يصل إلى أي نتيجة، بالتالي فإن أسباب امتناعها عن المواجهة تكمن في مناح أخرى، منها أنها فعلت أقصى ما تستطيع واستنفدت ما تقدر عليه، والباقي حرب نفسية.

الاعتبارات الأميركية
من بين الحسابات الماثلة أمام واشنطن إزاء أي سيناريو مُتطرف ضد لبنان هو إمكان تضرّر مصالحها في البلد بعدما بات خاضعاً إلى حد كبير لنفوذها. 

يبرز في هذا السياق كلام الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم والذي يمكن تفسيره على أكثر من وجه. قال قاسم: "إذا كانت أميركا تعمل لمصالحها في لبنان، فتأكدوا أنها ستبحث عن حل. وإذا كانت لا تهتم بوجود لبنان لمصلحة إسرائيل، فلن تكون للبنان حياة سواء استسلم أم واجه وقاتل".

هذا الكلام قد يُفهم في إطار المُحاججة التي تمهد لخيارات قد يقدم عليها الحزب، منها تهديد المصالح الأميركية في لبنان إذا بدأت "إسرائيل" حرباً واسعة، بموافقة أميركية، لا يعرف تداعياتها ولا كيف ستكون تبعاتها ومآلاتها.

بدل الحرب الصفرية الإلغائية، المُستبعدة، والتي تفرض على حزب الله أن يحرر كل طاقاته ومكامن قوته، تدير الولايات المتحدة حالياً معركتها ضد الحزب، بأدوات سياسية واقتصادية ومالية وإعلامية ونفسية غير خافية، تتضافر مع حرب أمنية وعسكرية تخوضها "إسرائيل". حتى الآن، تبدو هذه الأدوات مُستساغة أميركياً في سبيل تطويق حزب الله وإضعافه، وبما ينسجم مع الاعتبارات التي سوف ترد تالياً. 

ما سبق وما سيأتي لا يلغي احتمالات الحرب لكنه يُخضع سقفها وطبيعتها ومسارها للأسئلة الآنفة، وتبقى صحيحة ما لم يكن هناك أي مفاجآت مثل التي ظهرت خلال الحرب الأخيرة على لبنان وعلى إيران، وهذا مُستبعد.

يحضر اعتبار أساسي في هذا الصدد يتمثل بالمرونة التي تتمتع بها واشنطن وقدرتها على إيجاد بدائل في حال التعثّر، من دون أن تجد نفسها خاضعة إلى ضغط الوقت وتحت وطأته. صحيح أن المشاريع التي ترعاها واشنطن في المنطقة تعكس طموحاً كبيراً في هندسة الواقع الجديد، إلا أن تعثرها لا يهدد بأي حال الهيمنة التي دانت لها في المنطقة حيث عززت نفوذها عقب التحولات الجيوسياسية.

يدعم هذا الاستنتاج مضمون استراتيجية الأمن القومي الصادرة حديثاً عن الإدارة الأميركية، والتي تشي بوضوح أن البيت الأبيض يريد تجنّب المزيد من التعقيدات في الشرق الأوسط، وأن التغيرات التي طرأت نتيجة الجولات الأخيرة كافية بمساندة أدوات القوة الناعمة من أجل تحقيق الأهداف.

تختصر الوثيقة رؤية أميركا إلى الشرق الأوسط في جملة واحدة مختصرة: "نريد منع أي قوة معادية من الهيمنة على الشرق الأوسط وإمداداته من النفط والغاز ونقاط الاختناق التي تمر منها، مع تجنب الحروب الأبدية التي أوقعتنا في المنطقة بكلفة باهظة".

تنص الوثيقة صراحة على تعزيز التعاون مع السعودية والإمارات و"إسرائيل"، مع التركيز على الشراكات الاقتصادية وأمن الطاقة والردع ضد التهديدات المشتركة، وعلى رأسها إيران.

اعتبرت الاستراتيجية أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط في سياستها الخارجية، وأن المنطقة تحوّلت من مصدر تهديد للمصالح الأميركية إلى وجهة استثمار وتجارة وشراكة.

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP