البابا في مهد الحضارات.. "اليانكيز" غيّروا كل شيء!
يتفق عدد غير قليل من الباحثين على أن بلاد ما النهرين هي مهد الحضارة البشرية. بمعزل عن دقة هذا الاعتقاد علمياً أو من قد يختلف معه، إلا أنه لا يلغي حقيقة مؤكدة هي أن هذه البلاد عرفت واحدة على الأقل من أقدم الحضارات في التاريخ البشري.
في كتابه "الشرق مهد الحضارات وأرض الرسالات" يقول نايف زهرالدين إنه في القرن السابع قبل الميلاد ظهرت في شمالي العراق ثقافة العصر الحجري الحديث، بينما يرى جوبل كوتكين في كتاب "المدينة، تاريخ عالمي" أنه في حوالي سنة 5000 قبل الميلاد نشأت "أور" في بلاد ما بين النهرين لتكون أوّل مركز حضري، وأول مدينة تستحق هذا الاسم في تاريخ العالم. بشكل عام فإن المدن الأولى الرائدة بحسب الكاتب لم تظهر في الصين أو المكسيك ولا طبعاً في أوروبا أو أميركا، إنما في المشرق العربي، وتحديداً ما بين العراق ومصر وسوريا وتركيا.
يجزم المؤلف الأميركي من هذا المنطلق أن الشرق الأوسط هو مهد الحضارات الإنسانية من دون منازع. في حواضر العراق القديم نمت مسيرة التقدم البشري وشهدت دفعة جديدة مع التوصل إلى نظام من الرموز والعلامات ما لبث أن شكّل الأساس الموضوعي لنشوء أول نسق للكتابة والقراءة، بالتوازي مع شكل لغة الصورة في مصر القديمة. بعدها توصّلت فينيقيا على سواحل شرقي المتوسط إلى حروف الهجاء التي شكلت ثورة معرفية.
على مرّ التاريخ تعاقبت على العراق حضارات وحقبات وسلالات وغزوات وممالك وامبراطوريات وحكومات وأديان. حتى مطلع الألفية بقي العراق يحتضن أثمن ما خلّفته هذه الحضارات، ليست الآثارات والمتاحف، بل الإنسان العراقي بكل مكوناته وأطيافه وأعراقه وطوائفه. لم يكن العراق في ذلك يشذّ عن دول مجاورة في المنطقة، إيران وسوريا وتركيا ولبنان، بتنوعها الثقافي والتراثي وغناها التعددي.
في التاريخ الحديث على الأقل لم يطرأ على العراق تحوّلات ديموغرافية كمثل التي عرفها منذ قرّر الأميركيون التدخل في بلاد ما بين النهرين. تدّخل كانت بدايته حصاراً قاتلاً (النفط مقابل الغذاء)، ثم أعقبه غزو مباشر، وصولاً إلى خلق داعش في عهد باراك أوباما وفق اتهامات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
تهشمّت الفسيفساء المشرقية الغنية حضارياً وثقافياً في بلاد الرافدين نتيجة أحداث تعاقبت على مدى عقدين فقط. كان هناك حوالى 1.5 مليون مسيحي في العراق قبل العام 2003، وبحلول منتصف العام 2019، انخفض هذا الرقم إلى أقل من 150 ألف شخص بحسب بعض التقديرات.
دراسة أخرى أجرتها منظمة "المعونة" التابعة للكنيسة المسيحية الكاثوليكية في العام 2019 أظهرت أن أن نسبة المسيحيين في العراق انخفضت إلى نحو 90%. وعلى الرغم من هزيمة داعش، فإن تأثير الإبادة الجماعية أدى إلى هجرة وتناقص أعداد كبيرة من المسيحيين من المنطقة.
تاريخياً عاشت المكونات داخل العراق باستقرار نسبياً ما عدا الإشكاليات التي برزت بين الطائفتين الإسلاميتين الكبرتين، السنة والشيعة، إضافة إلى المشكلة الكردية التي ظهرت لاحقاً، وكلها مشكلات عززها وغذّاها الاحتلال الأميركي. لكن لم يبرز أي تهديد وجودي غالباً في ما يتعلق بالطوائف والأقليات الأيزيدية والصابئة والشبك والكاكائية والبهائية وغيرها، حتى في عز الحكم غير الديمقراطي. "الديمقراطية" الأميركية خلعت حاكماً غير ديمقراطي لكن تداعياتها غيّرت وجه المنطقة.
وعدا عما لحقها من أعمال إرهابية طالت معظم العراقيين، تعاني الأقليات العراقية اليوم من التهميش السياسي بسبب النظام الذي وضعه بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق. نظام رسّخ المرجعيات الإثنية والطائفية والدينية، مقابل تراجع حقوق المواطنة المتساوية بين العراقيين.
وتعود جذور بعض هذه المكونات إلى حضارات وادي الرافدين القديمة، بينما وفدت أخرى من مناطق مختلفة مجاورة وبعيدة، وعلى فترات زمنية متباعدة.
وفق بعض الباحثين ظهر الكلدانيون في العراق منذ العام 539 ق.م، وكان لهم ملوك حكموا البلاد. اعتنقوا المسيحية، لكنهم حافظوا على لغتهم الكلدانية التي يتحدث بها الكهنة أثناء القداديس، وهم يشكلون نحو 70 في المئة من مسيحيي العراق.
أما الآشوريون فتعود جذورهم إلى الإمبراطورية الآشورية التي حكمت بلاد ما بين النهرين قبل ظهور المسيحية بنحو 2500 عام. يعيش الآشوريون اليوم كمكونات اجتماعية في بعض مناطق سوريا والعراق. أغلب المكونات الاجتماعية في المنطقة اليوم تبحث عن الهجرة، وقد تعزز ذلك بعد احتلال العراق وبعد غزو داعش.
هذا الغزو لم تنته تبعاته بعد، كما لم تنهِ السنوات الماضية معاناة الأيزيديين بسببه. دراسة صادرة عن جمعية "الدفاع عن الشعوب المهددة في ألمانيا" تشير إلى أن 280 ألف شخص من الأيزيديين ما يزالون يعيشون في مخيمات اللاجئين في العراق وسوريا. وتقدر الأمم المتحدة أن تنظيم "داعش" قتل حوالى 5 آلاف رجل أيزيدي، وخطف واستعبد 7 آلاف امرأة.
يعتقد البعض أن الأيزيديين ودينهم وجدا منذ آلاف السنين، وتذهب روايات أخرى إلى أنهم انبثقوا عن الديانة البابلية القديمة في بلاد ما بين النهرين. مهما تعددت الروايات، فالثابت أنهم كانوا جزءاً أصيلاً من المنطقة لكن "المُحررين" الأميركيين غيّروا كل شيء.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً