تفجير أجهزة البيجر في لبنان: سيناريو مشابه لتفجير الأمن القومي في دمشق
حادثة تفجير بعض أجهزة الاتصال في لبنان، والتي تمّت على مدار أكثر من يومين والمتهمة "إسرائيل" بتنفيذها، تذكّرنا بحادثة تفجير مبنى الأمن القومي في دمشق عام 2012، والذي ذهب ضحيته أربعة ضباط قادة في القيادة السياسية والعسكرية للبلاد، وكانت غاية ذلك التفجير إحداث فوضى وشلل كبيرين داخل أجهزة الدولة السورية يتيحان للفصائل والمجموعات المسلحة التحرّك والسيطرة على بعض أحياء العاصمة وساحاتها العامّة ومراكزها الحسّاسة، وهو ما تُرجم بالهجوم على حي الميدان الدمشقي في أعقاب حادثة التفجير تلك.
ويبدو أنّ "إسرائيل" بعملية تفجيرها لأجهزة الاتصال التي كانت بحوزة بعض عناصر المقاومة والمواطنين اللبنانيين كانت غايتها مشابهة للغاية من تفجير مبنى الأمن القومي في دمشق، لجهة الوصول إلى شخصيات قيادية داخل حزب الله بهدف اغتيالها أو إصابتها واستثمار ذلك في إشاعة أجواء من الفوضى والإرباك داخل المجموعات القتالية الرئيسية للحزب تمهيداً لشنّ هجوم إسرائيلي على لبنان يكون أعنف من السابق، وأقدر على تحقيق صورة انتصار ما ترفع من معنويات الداخل "الإسرائيلي" المنهارة على المستويّين الشعبي والحكومي. وإلا لماذا لم يدّخر الاحتلال هذه الورقة بالغة الأهمية لاستخدامها في أيّ حرب مستقبلية مع الحزب؟
احتمالية الحرب أكبر
على أهمية معرفة الطريقة التي تمّ من خلالها تفجير أجهزة الاتصال تلك لتجنّب تكرارها أو إحباط أيّ محاولات اعتداء مشابهة، إلا أنّ الأهم يبقى الهدف الذي دفع الاحتلال للتضحية بمثل هذه الورقة الهامّة قبل وقوع المواجهة الكبرى؟ هل هي محاولة فعلاً لشنّ هجوم كبير على لبنان مستغلاً تداعيات الحادثة؟ أم هي مجرّد محاولة لنقل المواجهة إلى مرحلة أخرى أكثر خطورة؟ وماذا لو كانت الحادثة مجرّد تجربة يراد اختبارها ودراسة سبل تطويرها وتوسيعها لنقل الحرب مع الحزب من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تقدّماً وذكاء؟
منطقياً كلّ الاحتمالات السابقة ممكنة، لكن وفقاً للظروف التي تمرّ بها المنطقة والعالم، ولمجريات وتداعيات العدوان "الإسرائيلي" المستمر على القطاع منذ السابع من أكتوبر الماضي، وسلوك حكومة نتنياهو وتفاقم ما تعانيه من مشكلات سياسية داخلية وخارجية، فإنّ الاحتمال الأكبر يبقى ما ذكرناه سابقاً ألا وهو استهداف قيادات من المستوى الأول للمقاومة، تحييد عناصر من قوات النخبة المرابطة على الحدود مع فلسطين المحتلة والمناطق اللبنانية المحتلة، خلق حالة من الذعر والفوضى والخوف لدى الشارع اللبناني، ومن ثم القيام بهجوم أوسع وأعمق من السابق، والتصريحات "الإسرائيلية" الرسمية، التي أعقبت حادثة التفجير تشي بذلك من قبيل تصريح وزير الدفاع "الإسرائيلي" الذي قال فيه إن "مركز الحرب ينتقل إلى الشمال"، وكذلك تصريح رئيس الوزراء نتنياهو، والذي تعهّد فيه بإعادة المستوطنين في الشمال إلى منازلهم بـ"أمان".
وكما أن الفصائل المسلحة فشلت في مهمتها بدخول بعض أحياء العاصمة دمشق والسيطرة عليها في أعقاب حادثة تفجير خلية الأزمة في العام 2012، فإنّ حسابات "إسرائيل" لم تجرِ كما تشتهي أيضاً، إذ إن المقاومة اللبنانية حافظت على تماسكها وجاهزيّتها العالية رغم ما سبّبته حادثة التفجير غير التقليدية من إرباك من جرّاء عدد الإصابات الكبير.
والدليل على تجاوز المقاومة صدمة الحادثة هو استمرارها باستهداف المواقع العسكرية الإسرائيلية وفقاً للخطة الموضوعة وقواعد الاشتباك التي رسمتها في إطار عملية إسنادها لفصائل المقاومة الفلسطينية، مع تأكيدها أن العقاب على حادثة تفجير أجهزة الاتصال آتٍ، وبشكل يوازي ما سبّبه الإجرام الصهيوني، الذي لم يميّز كالعادة بين طفل وشيخ وشاب.
ومع ذلك فإنّ فرضيّة توسّع الحرب لا تزال قائمة ما دامت حكومة نتنياهو مصرّة على التصعيد أياً كانت نتائجه، فمن كان يتوقّع أن تستمرّ "تل أبيب" عاماً كاملاً في حربها على قطاع غزة؟ ومن كان يتوقّع أن تمسح آلة الحرب الصهيونية مدن القطاع بالكامل وتحوّلها إلى ركام؟ ففي بداية العدوان في السابع من أكتوبر اعتقد الجميع، سياسيين رسميين ومحللين ومتابعين، أن هذه الحرب كسابقاتها من الاعتداءات الإسرائيلية ستنتهي في غضون أيام أو أسابيع، لكن ما حدث كان خلاف تلك التوقّعات، الأمر الذي يرجّح من احتمال توسيع "إسرائيل" لحربها لتشمل المنطقة لتغدو حظوظها أكبر من عدم حدوثها.
الشريك الخفي
السؤال الآخر الذي يطرح في مقاربة حادثة تفجير أجهزة الاتصال يتعلّق بحدود مسؤولية ومشاركة الولايات المتحدة الأميركية في تلك العملية؟
كما في كلّ الجرائم والمجازر السابقة التي قامت بها "تل أبيب" في الأراضي العربية المحتلة، لبنان، سوريا، إيران، وغيرها، فإنّ واشنطن تنصّلت من المسؤولية كاملة مؤكّدة عدم علمها المسبق بمثل هذه العملية، لا بل إنها لم تأتِ على ذكر "إسرائيل" نهائياً في سياق البحث عن المخطّط والمنفّذ، وحجّتها المعتادة في ذلك انتظار الحصول على معلومات أكبر وفحصها. لكنّ كلّ المؤشرات تشير إلى أنّ واشنطن منخرطة بشكل كامل في التخطيط والتنفيذ لهذه العملية لعدة أسباب من أبرزها التالي:
- أياً كانت الخبرات التقنية "الإسرائيلية" متقدّمة، فإنّ طبيعة العملية وحدودها ومساحتها الجغرافية التي غطّتها تتطلّب تعاوناً عابراً للحدود، وهذا يدعم الاتهامات الموجّهة للولايات المتحدة بالمشاركة في هذه العملية، سواء تمّت تلك المشاركة عبر تعاون بين أجهزة الاستخبارات أو بين مراكز بحثية أو وشركات تجارية أو..... إلخ.
- الفشل "الإسرائيلي" المدوّي في قطاع غزة لجهة تحقيق أهداف الحرب المعلنة، أو لجهة ما تتعرّض له القوات المتوغّلة من خسائر بشرية وعسكرية كبيرة من جرّاء الفشل الاستخباراتي في تقدير قوة فصائل المقاومة وأماكن تمركزها وكمائنها. هذا الفشل يجعل من الصعب تصديق أنّ الذي يتخبّط في غزة، رغم ما ارتكبه من مجازر غير مسبوقة في التاريخ وما أحدثه من دمار كبير، هو نفسه الذي خطّط ونفّذ حادثة التفجير الأخيرة في لبنان!
- مثل هكذا عملية يمكن أن تتسبّب بانزلاق المنطقة بأسرها إلى حرب مدمّرة، ومن غير المنطقي أن تقوم "إسرائيل" بمثل هذه العملية، وتالياً تعريض المصالح الأميركية في المنطقة للخطر من جرّاء أيّ تطوّر غير محسوب للأمور. ثم إن "تل أبيب" تعتمد كلياً على مساندة ودعم الولايات المتحدة لمواجهة أيّ تداعيات غير متوقّعة لهذه الحادثة. كلّ ذلك يؤكد أن واشنطن لديها علم ومشاركة في التخطيط والتنفيذ.
- كما أنه يجب ألّا ننسى أنّ للولايات المتحدة "ثأراً" كبيراً مع محور المقاومة الذي تمكّن من إذلالها في البحر الأحمر، حيث فشلت في ردع هجمات القوات اليمنية واستهدافها للسفن المتجهة للكيان الصهيوني. وعليه فهي لن توفّر فرصة للردّ واستعادة كرامتها المهدورة في مواضع عديدة من المنطقة.
خلال الأيام القليلة المقبلة ستتكشّف المزيد من المعلومات المرتبطة بحادثة التفجير والدول والجهات المتورّطة بها بشكل مباشر أو غير مباشر. وليس بالضرورة أن يتمّ تسريب المعلومات الجديدة للإعلام، لكن بالتأكيد فإنّ ماهية وطبيعة ردّ حزب الله المقبل سيشيران إلى بعض تلك المعلومات أو على الأقل سيدفعان باستنتاجات معيّنة.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة