الرد الإيراني على استهداف القنصلية: لا تنسوا هذه الحقائق!
أظهرت معظم ردود الفعل الأولية، الشعبية والنخبوية، التي أعقبت رد طهران على استهداف قنصليتها في دمشق ضعفاً واضحاً في تحليل الحدث ومقاربة معطياته. السبب في ذلك يكمن إما في الموقف السياسي للبعض من إيران والمحور الذي تنتمي إليه، وتالياً كان طبيعياً محاولة فريق ما التقليل من أهمية الرد وتسخيفه، وإما في الصورة التي جرى رسمها عن حجم النتائج المنتظرة من ذلك الرد، والتي ارتبطت بذهن البعض المتشوق للانتقام من "إسرائيل" بحدوث دمار هائل في بعض منشآتها ومرافقها. وبناء عليه، فإن ما تحقق بعد الرد خلق حالة ما من الإحباط.
في المقابل، كانت هناك مجموعة من الآراء ووجهات النظر الموضوعية المبنية على تحليل عقلاني للحدث، إلا أنها للأسف كانت محدودة، ولم يتح لها الانتشار في ضوء حالة "التسطيح" التي تتعامل بها العديد من وسائل الإعلام العربية مع أحداث المنطقة وتخندقها السياسي، فضلاً عن هشاشة جزء كبير من المحتوى العربي المنشور في شبكات التواصل الاجتماعي والبعيد عن أسلوب التحقيق والتدقيق.
معطيات مجهولة للبعض
يتأتى الضعف الذي ظهرت عليه بعض ردود الفعل على الرد الإيراني من تجاهل عدة حقائق أو معطيات يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
- الحظر الذي فرضته "إسرائيل" على وسائل الإعلام المحلية والخارجية، والذي منع الأخيرة من تقديم رؤية غير رسمية للأماكن التي استهدفتها المسيرات والصواريخ الإيرانية وحجم الأضرار التي نتجت منها، فالتصريحات الرسمية "الإسرائيلية" كانت تصر على ترويج رواية واحدة، هي إسقاط 99% من تلك المسيرات والصواريخ، وتالياً إفشال الرد الإيراني، في حين أن بعض مقاطع الفيديو التي بثت في شبكات التواصل الاجتماعي كانت تؤكد عبور المسيرات والصواريخ الإيرانية القدس المحتلة وتل أبيب وغيرها، وإحداثها أحياناً انفجارات واضحة.
التعتيم الإسرائيلي كان متوقعاً، وإلا فإن الرأي العام الإسرائيلي كان سيصاب بنوبة أخرى من الذعر والخوف فيما لو وقف على حقيقة ما جرى، إذ تكفي ما تفعله الصور والفيديوهات التي يبثها بشكل دوري مقاتلو كتائب عز الدين القسام عن عمليات القنص واستهداف الدبابات والمركبات العسكرية في محافظات غزة، فيما لم ينجح الجيش الإسرائيلي بكل إمكانياته وقدراته في تسويق صورة واحدة تؤكد ما يقوله ويروجه للداخل والخارج عن حربه على غزة.
- المقارنة غير الموضوعية بين استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق وطبيعة الرد الإيراني، فالطائرات الإسرائيلية قامت باستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق من فوق مرتفعات الجولان السوري المحتل، والتي تبعد ما بين 50-100 كم عن العاصمة دمشق، فيما القوات الإيرانية أطلقت مسيراتها وصواريخها من مسافة تتراوح ما بين 1200-2000 كم، وهذا ما اضطرها إلى عبور أجواء أكثر من دولة عربية للوصول إلى عمق الكيان الصهيوني المحتل.
لذلك، فإن وصول أي مسيرة أو صاروخ إيراني إلى الأراضي العربية المحتلة يعتبر نصراً كبيراً لطهران وهاجساً مخيفاً لتل أبيب، وخصوصاً إذا ما تم ربط ذلك بمضمون النقطة التي سيتم ذكرها تالياً.
- لم تكن مهمة المسيرات والصواريخ الإيرانية سهلة في ضوء الاستنفار الغربي لقواعده وقطعه العسكرية في البر والبحر، والتي أسهمت بشكل كبير في الحد من وصول تلك المسيرات والصواريخ إلى أهدافها داخل الأراضي المحتلة.
ولولا تلك المساعدة الغربية، لكانت العديد من المنشآت المستهدفة في "إسرائيل" قد تضررت بشكل كبير. وما إعلان مسؤولي 5 دول غربية وعربية عن مشاركة قواتهم العسكرية في التصدي للمسيرات والصواريخ الإيرانية سوى تأكيد على حجم التحدي الذي كان ينتظر القوات الإيرانية في التخطيط لردها وتنفيذه، في حين مثلاً أن الصواريخ الإسرائيلية التي تستهدف، وبدعم استخباراتي أميركي، وأحياناً بتسهيلات عربية، الأراضي السورية كانت الدفاعات الجوية السورية تواجهها بمفردها. ومع ذلك، كانت تتمكن، رغم إمكانياتها المحدودة مقارنة بما تمتلكه "إسرائيل" وحلفاؤها، من إسقاط بعض من تلك الصواريخ.
- الأهم في مقاربة الحدث هو محاولة الإجابة على سؤال جوهري: ماذا كان مخطط طهران من الرد أصلاً؟ هل كانت تريد فعلاً إحداث تدمير كبير في المنشآت "الإسرائيلية" المستهدفة والدخول في حرب مباشرة وواسعة مع الكيان الصهيوني أم أنها كانت تريد إيصال رسالة عملياتية إلى الإسرائيليين والأميركيين، مفادها أنهم يلعبون بالنار، ولا "تسلم الجرة" كل مرة، ولا سيما أن الرد العسكري سبقه احتجاز القوات البحرية الإيرانية سفينة تجارية مملوكة لرجل أعمال إسرائيلي؟ ولنتذكر هنا أيضاً أن أحد فصائل المقاومة العراقية تمكن قبل نحو شهر من استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية في إيلات بطائرة مسيرة، وألحق بها أضراراً ليست قليلة، بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية.
منطقياً، ليس من مصلحة إيران حالياً الدخول في حرب مباشرة مع "إسرائيل"، وإن كان جنون نتنياهو يدفع باتجاه ذلك. وبناء عليه، فإن الرد الإيراني لم يكن يستهدف جر حكومة نتنياهو إلى ما تبتغيه، بدليل أنه كان أمام طهران مجموعة أهداف اقتصادية يمكن استهدافها بسهولة، من قبيل مرفأ حيفا، ومنصات الغاز في المتوسط، والمجمعات الصناعية الكبرى، والمنشآت الحكومية في تل أبيب وما إلى ذلك.
ورقة التوت
بعيداً عن الأمزجة والرؤى الشخصية للبعض ومواقفهم السياسية المؤيدة أو المعارضة لإيران، فإن حقيقة تداعيات الرد الإيراني أخذت تتكشف تدريجياً، فالهيجان الغربي، المتمثل في مسارعة الدول الغربية إلى إدانة الرد والتحذير من إمكانية نشوب حرب إقليمية لا يمكن السيطرة عليها، يظهر خطورة الخطوة الإيرانية على أمن "إسرائيل" من جهة، وعلى مستقبل المشروع الغربي الجاري تنفيذه في المنطقة من جهة ثانية، وإلا لماذا لم توافق هذه الدول على إدانة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية والمجازر المرتكبة بحق المدنيين الأبرياء في قطاع غزة؟ ولماذا صوتت الدول نفسها ضد مشروع بيان في مجلس الأمن لإدانة الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق؟
ومن الطبيعي أيضاً أن تهاجم بعض الأنظمة الرسمية العربية الرد الإيراني وتحمل عليه في وسائل إعلامها وتحاول الحط من أهميته وجرأته، فهذا الرد عرى ما تبقى من أوراق التوت التي تستر عورة هذه الأنظمة وموقفها المتخاذل من العدوان الإسرائيلي على مليوني مدني في قطاع غزة، وهو العدوان المستمر منذ أكثر من 190 يوماً، من دون أن تتمكن دولة عربية واحدة من إدخال شاحنة مساعدة إلى الجوعى في القطاع أو أن تجرؤ على طرد سفير إسرائيلي من أراضيها أو أن تمنع سيارة إسعاف من إخراج طفل مصاب من القطاع...
في المثل الشعبي، يقولون عدو عدوي هو صديقي، وذلك كناية عن وجود تلاقٍ في المصالح والأهداف.. لكن في العلاقة والموقف مع "إسرائيل" يفترض أن تكون القاعدة: عدو "إسرائيل"... هو حليفي، وليس صديقي فقط، وهذا ما نطق به الفلسطينيون في الأراضي المحتلة وهم يشاهدون المسيرات والصواريخ الإيرانية في سماء مدنهم وقراهم تعبر إلى حيث الأهداف الصهيونية.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة