الكذب الأميركي: التباين مع "إسرائيل" شكليّاً فقط
مع اتساع دائرة الغضب العالمي على خلفية استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تحاول الولايات المتحدة الأميركية أن تظهر بعض التباين في موقفها الداعم لـ "إسرائيل"، ولا سيما أن تنامي الدعوات المتطرفة التي يطلقها مسؤولو حكومة نتنياهو باتت محرجة للسياسة الأميركية، التي تعلن منذ سنوات تأييدها لخيار الدولتين كأساس لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إنما عملياً تدعم كلّ ما يناقض ذلك.
لكن هذا التباين لا يتعدّى بعده الإعلامي المتحرّر من أيّ إجراءات عملية تكبح جماح التوحّش الإسرائيلي. ففي الوقت الذي يخرج فيه مسؤولو إدارة بايدن على الإعلام للتنديد بتصريحات وزيرين من حكومة نتنياهو يدعوان إلى تهجير سكان القطاع، ترفع المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي يدها لإسقاط مشروع قرار دولي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار.
كما أنّ الاعتراف الأميركي بسقوط آلاف الضحايا المدنيين من جرّاء القصف الإسرائيلي العشوائي على المدن والأحياء السكنية في القطاع، يقابله تشكيك ورفض مستمرّ للتهم الموجّهة لـ "تل أبيب" بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وهذا أيضاً ما ينطبق على سحب حاملة الطائرات "فورد" من شرقيّ البحر المتوسط، في وقت تعبر فيه المتوسط عشرات السفن والطائرات لتزويد "تل أبيب" بالأسلحة والعمل مع جنودها على الأرض في قطاع غزة.
لذلك يبدو أن محاولة واشنطن التنصّل إعلامياً من بعض التوجّهات والأفعال الإسرائيلية ليس سوى محاولة لتخدير مخاوف دول المنطقة وشعوبها من جهة، الحيلولة دون توسّع الصراع ليتحوّل إلى حرب إقليمية ستكون بلا شك مهدّدة للمصالح الأميركية من جهة ثانية، ومنع إلحاق مزيد من الضرر بمكانة وصورة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي من جهة ثالثة.
لا يخرج الخلاف الأميركي-الإسرائيلي عن دائرة تباين الآراء حيال بعض التفاصيل المؤدية إلى تحقيق الأهداف المتفق عليها من الحرب الشاملة على قطاع غزة، وهو خلاف معتاد وقديم ليس له أدنى تأثير على جوانب ومستوى الدعم الأميركي للكيان الصهيوني، لا بل هو في بعض المواضع غالباً ما يكون أشبه بتوزيع أدوار غايته استمرار تصدير واشنطن نفسها كوسيط تفاوضي في قضايا المنطقة، والأهم محاولة ترميم ما أصاب جهود التطبيع الإسرائيلي مع بعض الدول العربية من أضرار كبيرة من جراء العدوان على قطاع غزة، خاصة لجهة مدى تقبّل الشارع العربي لهذا التطبيع.
فمثلاً تدرك واشنطن أن المشروع الإسرائيلي الرامي إلى تهجير الفلسطينيين إلى خارج الأراضي العربية المحتلة محكوم عليه بالفشل لاعتبارات عديدة، أبرزها الرفض الرسمي والشعبي الفلسطيني والعربي الواسع للمشروع، وتباين الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية بين عامي 1948 و1967 وبين الوقت الراهن، ولا سيما لجهة معادلة الردع التي باتت تشكّلها فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية، والتي تتطور أدواتها وحدودها باستمرار، ولذلك فإن الإدارة الأميركية لن تورّط نفسها في مشروع فاشل ومهدّد لمصالحها المباشرة وغير المباشرة في المنطقة، وتالياً فإنّ تنديدها بتصريحات ودعوات التهجير الإسرائيلية لا يأتي من منطلق دفاعها عن حقوق الشعب الفلسطيني ومحاولة لجم التطرّف الصهيوني، الذي بنى تحت أنظار الإدارات الأميركية المتعاقبة آلاف الوحدات السكنية في الضفة الغربية منذ توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، وإنما لعدم توريط نفسها في مشاريع قد تتسبّب مستقبلاً باستهداف المصالح الأميركية، والإضرار بمكانة الولايات المتحدة في المنطقة لصالح زيادة نفوذ المنافسين الروسي والصيني.
ومن ناحية أخرى، فإن جزءاً من ذلك التباين الذي يجري الحديث عنه إعلامياً بين واشنطن و"تل أبيب" لا يمكن تصنيفه إلا في خانة التضليل والكذب، فالفشل الإسرائيلي الذريع في حسم المعركة في قطاع غزة بعد أكثر من ثلاثة أشهر، رغم سقف الدعم المفتوح عسكرياً وسياسياً، يجبر الولايات المتحدة على محاولة إظهار بعض التمايز عن الموقف الإسرائيلي، كطلبها المستمر من حليفتها تجنّب استهداف المدنيين وتقليل حجم الخسائر بينهم، إلا أنها عملياً لا تزال تحشد إمكانياتها وقدراتها خلف حكومة نتنياهو باعتبارها الأداة الوحيدة المتاحة اليوم للنيل من فصائل المقاومة التي وضعتها منذ السابع من أكتوبر في موقف محرج، فلا هي قادرة على الاستخدام المباشر لقوتها العسكرية بالنظر إلى التداعيات الخطيرة لمثل هذه الخطوة على مصالحها وحياة جنودها وأكثر من أي وقت مضى، ولا سكوتها عمّا تتعرّض له من مهانة ستكون نتائجه محبّذة على المدى المنظور.
ما يفضح الكذب الأميركي في هذا التباين "المصطنع" أن إدارة بايدن لا تمارس ضغوطاً حقيقية على "تل أبيب"، لا لكي توقف حربها الشاملة على القطاع والمستمرة منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر، وإنما على الأقل لوقف استهدافها للأحياء السكنية وارتكابها يومياً لعشرات المجازر الجماعية بحق الأطفال والنساء، فضلاً عن السماح بتدفّق المساعدات الإغاثية لسكان القطاع ونقل الجرحى إلى الخارج للعلاج. وهذا أبسط ما يمكن أن يعطي الموقف الأميركي بعض المصداقية في محاولته التمايز عن الإجرام الصهيوني.
لكن استمرار هذا التمايز فقط في الفضاء الإعلامي يجعل من إدارة بايدن شريكاً أساسياً في قتل الفلسطينيين وتدمير منازلهم ومدنهم وتهجيرهم.
وليس صحيحاً أن الإدارة الأميركية عاجزة عن الضغط على "إسرائيل" كما يعتقد البعض، وإلا كيف تمكّنت واشنطن في هذه الحرب من لجم حكومة نتنياهو من فتح جبهة جديدة ضد لبنان، أو القيام برد عسكري على اليمن أو على فصائل المقاومة في العراق. وسابقاً نجحت الضغوط الأميركية في كثير من الأوقات في تعديل المواقف والسياسات الإسرائيلية بما يتماشى مع سياساتها في هذا الملف أو ذاك.
أفضل تشبيه للسياسة الأميركية تجاه "إسرائيل" في عدوانها المستمر على قطاع غزة، هو ما تفعله دول عربية مع "إسرائيل"، تشتمها وتدينها في العلن وتشدّ على يدها في السرّ للقضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية بذرائع مختلفة.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة