"كلوب هاوس".. من يسرق أصواتنا؟
صحّت التوقعات بأن يكون العام 2021 حافلاً بالصوت، مع توجّه المحطات والمواقع والشركات التقنية إلى الاستثمار بأكثر من مليار دولار في المحتوى الصوتي المسجل. ساعدت على ذلك سهولة عملية الاستماع و"التحميل" وتوفر المواد من خلال التطبيقات المتخصصة بالمحتوى الصوتي.
هذا التوجّه تبلور بشكل سريع في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تشير الأرقام إلى أن ما يقارب 60% من المستطلعين يستمعون إلى "البودكاست". بطبيعة الحال، ساهم انتشار وباء كورونا في تعزيز مكانة المحتوى الصوتي، ووفّر ظروفاً إضافية لإقناع المستخدم بمضمون التطبيق المتخصص في موضوع الصوت حصراً، إذ بات مستخدمون كثر حول العالم يعتمدون بدرجة متزايدة على هذا النوع من المحتوى.
ينبثق نجاح تطبيق "كلوب هاوس" من هذه العوامل مجتمعة، ويمكن الحديث عن عوامل أخرى. ما فعله التطبيق الجديد هو نجاحه في الاستفادة من التحوّلات الرقمية، إذ استثمرها في إعادة إحياء المحتوى الصوتي والبث الإذاعي و"البودكاست" بطريقة عصرية، ودمجها مع خصائص منصات التواصل، فكانت النتيجة أشبه بنموذج جديد، يتمثل في الصوت كشبكة اجتماعية.
أسئلة السياسة حاضرة
ثمة خصوصية انطلقت منها المنصة، وهي خصوصية لا تفارق التحوّلات في مفاهيم الإنتاج وصناعة المحتوى بكل أشكاله، بما فيه الصوتي. لقد تبدلت هذه المفاهيم، بحيث لم يعد الإنتاج الرقمي محصوراً بيد الناشرين التقليديين، وبات يعتمد بصورة متزايدة على المستخدم الذي أصبح لاعباً أساسياً يتمحور حول المنصات وصناعة المحتوى. هذا النموذج يتجلى بشكل واضح في منصات التواصل الاجتماعي التي نعرفها.
انطلق "كلوب هاوس" منذ شهر آذار/مارس من العام الماضي، إلا أنَّ أعداد "التحميلات" المرتبطة بالتطبيق والمحصورة بمستخدمي "آيفون" حلّقت في شهر شباط/فبراير الماضي. وإذا ما عاينّا استخدام التطبيق في دول العالم العربي، نلاحظ وجود أكبر عدد من المستخدمين في مصر والسعودية. يُلاحظ مثلاً أن الغرف المُدارة من السعودية تتوجَّه إلى الشباب العراقي واللبناني والفلسطيني بشكل كبير، وتستضيف شخصيات مؤيدة للتطبيع، وتحاصر الفلسطينيين بالأفكار المسيئة، عبر شخصيات يجري الترويج لها وتسويقها.
إذاً، في ظلّ الأوضاع السياسية السائدة في المنطقة، والمشاريع السياسية المتصارعة فيها، وفي ظل تلازم التقنية مع مفاهيم قيمية وسياسية، لا يختلف "كلوب هاوس" عن غيره من منصات التواصل الاجتماعي، باعتبارها أدوات يتم تسخيرها لخدمة أهداف سياسية، سواء بصورة مباشرة أو ملتوية، إلى جانب غيرها من الأدوات والأساليب التي يمكن أن تستبيح الخصوصية وتبثّ الفرقة والكراهية وتُوظّف لتحقيق أهداف خارجية، مهما حاولت أن تدّعي عكس ذلك.
فبركة المواطن الصّحافي
واحدة من هذه الأساليب التي نتحدّث عنها هي فبركة الأحداث وتصنيع نماذج وتعميمها وتضخيمها، ثم استخدامها في الإعلام بوصفها ظاهرة، بينما تكون في الحقيقة مجرد حالة تم الدفع بها وجرى تسويقها. هذا النمط يمكن التعرف إليه بسهولة في الإعلام الغربي بشكل خاص، إذ يتم تصوير هذه التطبيقات بداية كمساحات للحوار وتعزيز الديمقراطية، في ظل غياب البدائل والقيود على حرية التعبير.
وفي هذا الإطار، يتعمّد الإعلام الغربي ممارسة التضليل عبر المواطن الصحافي، ففي سبيل إضفاء مصداقية أعلى عند الجمهور والتأثير في الرأي العام، يجري استخدام هذه المنصات لصناعة "ناشطين" تحت مبدأ المواطن الصحافي، إذ يحاول بعض المشاركين تقديم معلومات بوصفها مشاهدات حية، وأحياناً من خلال أشخاص وهميين أو مأجورين يقدمون مواد حساسة أو مواقف لافتة تخدم أهداف الإعلام الغربي، وتتحوّل إلى عناوين أساسية في المواقع الغربية ومواد دسمة للتحقيقات والتقارير المصورة، على اعتبار أنّ مشاركة هذه الحسابات تعد نوعاً من أنواع الصحافة البديلة.
طبعاً، هذه السردية يجري اعتمادها وتوظيفها للحديث حصراً عن الدول الممانعة للولايات المتحدة الأميركية وسياساتها، ولكن بشروط كلّ بلد ووفق ظروفه.
في الصين مثلاً، حيث يتم حجب هذا التطبيق لدواعٍ أمنية تتعلق بالخصوصية وسلامة البيانات، يجري تصوير الأمر في الإعلام الغربي من زاوية الاستبداد والقيود على حرية التعبير وعدم السماح للمواطنين بالمشاركة. أما في إيران، التي ينشط فيها مستخدمو التطبيق بشكل فاعل، وتتنقل شخصيات سياسية بين الغرف للمشاركة، ويجري مساءلتها ونقاشها من دون أية قيود، يصوّر الأمر باعتبار أن الجمهورية الإسلامية تغرق المنصة بالبروباغندا، بدلاً من حجبها، ويظهر هذا التوجّه في عناوين صحف ومواقع عريقة، مثل "وول ستريت جورنال".
في واقع الأمر، بات من الصعب أن يتقبّل العالم دروس الديمقراطية الأميركية والأحكام والشهادات التي تصدرها صحفها ومواقعها. لقد وقع الأميركيون أنفسهم في الفخ الذي نصبوه، بعد أن حجبت منصات التواصل الاجتماعي حرية التعبير عن رئيسها وعن عشرات الآلاف من أنصاره، وعمدت إلى تحديد نوع المحتوى الذي يمكن نشره.
ما الحل؟
ما دمنا نستهلك التطبيقات كسلعة أو صندوق أسود يؤمّن لنا خدمات معينة - من صناعة البدائل - فلن نتمكّن من الاستفادة بطريقة إيجابية من التكنولوجيا. باختصار، يعد "كلوب هاوس"، كغيره من التطبيقات، خزاناً من المعلومات والبيانات، ومن يجمعها هو صاحب النفوذ والقوة والكلمة الفصل في تحديد من يتواجد في التطبيق ومن يتفاعل فيه.
شهد الأسبوع الماضي تسريبات تحدّثت عن سحب بيانات أكثر من مليون مستخدم. وقد تضمّنت صوراً ومتابعين وحسابات أخرى مشبوكة فيه. ثمة أمر آخر يجدر التوقّف عنده، ويتمثل في التنصّت على التطبيق. يجري هذا الأمر بسهولة. وقد واجهناه في عدة غرف أطلقناها في "الميادين أونلاين" خلال الأسابيع الماضية، فالتطبيقات التي تتيح التسجيل رائجة ومنتشرة.
من جهة أخرى، يمكن أيضاً انتحال أي اسم أو صفة وخداع المشاركين، بهدف استدراجهم لاحقاً أو معرفة حقيقة آرائهم في مواضيع معينة. من هنا، تطرح عدة أسئلة حول التطبيق:
لماذا لا يجري منع التسجيل أو تعقيد الموضوع أو إغلاق الحسابات التي تسجّل المحادثات في الغرف؟ لماذا لا يجري التحقّق من هُوية المستخدمين بطريقة دقيقة؟ ولماذا لم يعتبر التطبيق سحب بيانات المستخدمين انتهاكاً لخصوصياتهم؟ لقد أعلن أن البيانات متاحة للعلن، ويستطيع أي شخص معاينتها.
رغم كلّ ما تقدّم، إنّ ذلك لا يلغي ضرورة التواجد في هذه المنصات، فجميع الأدوات الرقمية يمكن الاستفادة منها بطرق إيجابيّة وسلبيّة. أهمية التواجد في "كلوب هاوس" وغيره من المنصّات تنبع من ضرورة التصدي لكل المتواطئين مع سياسات الغرب، وتقديم المواد البديلة المفيدة، والتوجيه التقني السّليم. في النهاية، المستخدمون يستخدمون العالم الرقميّ لكي يلحقوا بركب العصر الّذي يصبح مع الوقت واقعاً وحتمياً.
وكي لا تُترك السّاحة التي يشارك فيها مستخدمون من جميع الأهواء والمشارب والاتجاهات، من الأفضل تحصين الشباب، عبر توفير مواد تحوز اهتماماتهم، حتى لا تكون الغرف المسيئة هي الخيار الوحيد. ويبقى الحلّ الاستراتيجي هو بناء منصاتنا الخاصَّة التي تحمينا على أقل تقدير من سوء استخدام بياناتنا.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً