بايدن الباحث عن سلّم نجاة.. أن تختار المرّ!
لطالما عكست هوليوود مشاكل المجتمع الأميركي، وعبّرت درامياً عن عمق الأخاديد التي تشقّ طبقاته. نماذج من هذه الأفلام فازت بجوائر "أوسكار"، مثل "نومادلاند" وقبله "جوكر"، وأخرى وجدت صدى واسعاً لدى الجمهور، مثل "the big short"، الذي صوّر انهيار سوق الأسهم خلال الأزمة المالية التي ضربت أميركا بين العامين 2008 و2009. كذلك، كان فيلم "fight club" واحداً من أفلام كثيرة عكست الواقع الاجتماعي وحياة العمال، وهي كلها بالإجمال أفلام تحاكي أوجاع الطبقات الاجتماعية، وتعبّر عن فشل النموذج النيوليبرالي الذي استنزف الطبقة العاملة وحطّم أحلامها داخل بلاد العم سام.
لا يغيب عن بالنا أن صناعة السينما الأميركية بشكل عام منقادة إلى النظام العام. صحيح أنها مشاكسة، لكنها غير متمردة عليه. هذا حال بعض النخب الثقافية والفنية التي تشهد تغييراً من خلال خطاب سياسي مختلف، فتبدو كأنها تبتعد عن الجمهوريين، وتتبنى مواقف وشعارات مؤيدة للمهاجرين والأقليات، لكنها لا تنحاز بشكل تام وجوهري إلى رأي المواطنين، الذين بات يميل قسم كبير منهم إلى الاقتناع بأن شركات المال والأعمال العملاقة داخل الولايات المتحدة تساهم بشكل أساسي في الفقر والتفاوت الطبقي وفشل نماذج الرعاية الاجتماعية.
ينعكس هذا الأمر في أوساط النخب الآنفة الذكر من خلال نوعية الأفلام التي يتم التصويت لها في مسابقات الأفلام، وتلك التي يتم إنتاجها، إضافةً إلى الزوايا التي يجري التركيز عليها. على الرغم من أن هذه النخب جزء من المنظومة الحاكمة، ومحسوبة على الطبقة الأكثر ثراء في البلاد، فإنها تسوّق لنفسها بوصفها أقرب إلى نبض المجتمع، وتتجنب الاستفزاز، وخصوصاً في ظل سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعرّض أي موقف لارتدادات كبيرة محتملة وردود أفعال. وفي نهاية المطاف، شهرة هذه النخب وهؤلاء النجوم مرهونة بالرأي العام. لذلك، تحاكي خطاباتهم وجع الناس، بحيث تبدو كأنها تتماهى معه.
بايدن وخطاب الضرورة
ليس خافياً أنَّ الرئيس الأميركي جو بايدن كان مقرباً من الأوساط المالية والمصرفية خلال عمله سيناتوراً عن ولاية ديلاوير. وقد استمر هذا الأمر لاحقاً خلال فترة رئاسة باراك أوباما عندما كان نائباً للرئيس.
قربه من الشركات المالية ومن "وول ستريت" كان من الأسباب الأساسية لعدم ترشحه في انتخابات العام 2016، إذ إنه لم يكن مقبولاً من القاعدة التقدمية في أوساط الحزب الديمقراطي. في انتخابات العام 2020، كان بايدن المرشح الديمقراطي التقليدي القريب من الشركات، وتعرض لهذا السبب للهجوم والانتقاد من شخصيات تقدمية بارزة في الحزب، مثل أليكسا كورتيز، التي رفضت تزكيته في المؤتمر الحزبي العام، رغم أنه عدّل خطابه، وقدّم برنامجاً انتخابياً تضمّن زيادة الضرائب وتخفيف الحماية عن أصحاب الثروات.
صحيفة "نيويورك تايمز" ذكرت العام الماضي أن "إدارة بايدن وهاريس تعني العودة إلى العلاقة الحميمة التي تمتع بها وادي السيليكون مع البيت الأبيض في عهد الرئيس باراك أوباما"، لكننا نشهد اليوم تغيراً في خطاب بايدن وتصريحاته، بسبب جملة عوامل داخلية وخارجية أرغمته على إجراء هذا التحوّل.
زمن التحوّلات الصعبة
صحيح أنّ وباء كورونا كان السبب في مفاقمة الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة، أسوة بكل دول العالم، إلا أن هذه الأزمة سبقت الوباء الّذي كشف عن ضعف المناعة الاقتصادية والاجتماعية، كما يفعل المرض في جسم هزيل.
تشير الأرقام إلى تفاوت طبقي خطِر بين "البيض والسود"، بمعدل يبلغ ضعفين أعلى لدى "السود"، وتعكس زيادة في عدم المساواة على مدار الأعوام الثلاثين الماضية. تشهد الولايات المتحدة اليوم تنامياً خطِراً في الاضطرابات الناتجة من التفاوت الطبقي الذي يتغذى على العنصرية الممهنجة، وكذلك بسبب الوباء والمشكلات الاقتصادية والظروف المعيشية الصعبة في أوساط العمال وأصحاب المصالح الصغيرة والمتوسطة والطلاب. أضرار كورونا تركت أثرها بشكل أكبر في الأقليات والفقراء، وأي تحرك شعبي سيكون مؤذياً جداً لأجندة بايدن وللصورة التي يحاول رسمها عن البلاد.
أما خارجياً، فإننا نتحدث عن مرحلة ما بعد كورونا بالنسبة إلى الاقتصادات العالمية. فشل أميركا في التكيف مع الجائحة اقتصادياً أثبت أن الاقتصاد النيوليبرالي لا يقدّم حلولاً ناجعة، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى نماذج مختلفة، مثل الصين التي خرجت منتصرة بنسبة نمو تجاوزت 2% في أسوأ الظروف، وروسيا التي تواصل تطورها السريع في مجال السايبر.
خلاصة القول إن تضافر العوامل الخارجية والداخلية يعزز الأخطار في حال المضي بالتوجهات السابقة نفسها، وخصوصاً أن الولايات المتحدة على أعتاب انتخابات نصفية. وهنا تكمن مشكلة بايدن. من الصعب على أي رئيس أميركي أن يتموضع ضد "وول ستريت" ووادي السيليكون في الوقت نفسه، الأمر الذي من شأنه أن يضاعف التحديات أمام بايدن، فهذه الشركات تمتلك النفوذ إلى جانب القوة الاقتصادية، كما تتمتع بإمكانية التأثير في المشرعين، ولديها قدرات عالية على التحكم بزمام الأمور، سواء عبر جماعات الضغط أو الأموال التي تتبرع بها للمرشحين، وتستطيع من خلالها التأثير في الانتخابات.
أمام أي تهديد لمصالحها أو أي قلق من قرارات أو قوانين مؤذية لأرباحها، لن تقف هذه الشركات مكتوفة الأيدي، وهي تمتلك من أدوات التأثير ما يتجاوز سلطة المال إلى ما هو أخطر وأكثر ارتباطاً بالبيانات وإمكانية التلاعب بالرأي العام، من خلال سياسة انتقاء وتفضيل المحتوى، الأمر الذي عبّر عنه فرانسيس فوكوياما بالقول إن هذه الشركات تشكّل تهديداً تاريخياً للديمقراطية الأميركية.
وبالتالي، بعد تجربة ترامب، يمكن أن نشاهد فصلاً آخر من فصول الصراع الناعم والتشويه بين هذه الشركات والرئيس الأميركي، رغم أن بايدن قام بتعيين كل من جيسيكا هيرتز، المستشارة العامة المساعدة السابقة في "Facebook"، وسينثيا هوجان، النائب السابقة لرئيس "Apple" للشؤون الحكومية، ضمن فريق عمله، علماً أن إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "Google"، كان مصدراً أساسياً للتبرعات لحملته، ويُتداول أنه مرشح لقيادة فريق عمل جديد لصناعة التكنولوجيا في البيت الأبيض.
الأمور تزداد تعقيداً في طريق بايدن في ضوء انقسام الكونغرس. ورغم أنه انحاز أحياناً إلى الخيارات الشعبية اليسارية التي يمثّلها الجناج التقدمي داخل حزبه، فإن الأغلبية الديمقراطية سوف تنقسم عند الحديث عن خطط ضريبية جديدة، وقد نرى معارضة لبايدن من بعض الأعضاء الديمقراطيين. أما الجمهوريون، فهم أصلاً مستاؤون من هذه البرامج والاقتراحات، وقد عبروا سابقاً عن أنها مبالغ فيها وغير فعالة، وبالتالي سيؤدي تبنيها من قبل البيت الأبيض إلى المزيد من الانقسام.
حالياً، ما زالت المعركة معركة رأي عام يحاول بايدن أن يكسبها، وسنكون بلا شك أمام المراهنة والتعويل على دعم الشارع الأميركي واستعطافه من خلال هذه الخطوات، وخصوصاً أن استطلاعات الرأي الأخيرة ما زالت تشير إلى أن المزاج الأميركي بعد جائحة كورونا يميل إلى تحسين الظروف المعيشية. هذه الزاوية التي فشل فيها ترامب، يحاول بايدن أن يكسبها، من خلال جسر الفجوة مع حالة ترامب الشعبوية التي ما زال يلتف حولها عدد كبير من الناس.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً