منصات التواصل لسلطة المال في أميركا: كش ملك!
تشكّل الأحداث المستمرّة في الولايات المتّحدة على إثر مقتل جورج فلويد مناسبة جديدة لدراسة تأثير منصات التواصل الاجتماعيّ ودورها. الهبّة ضدّ العنصريّة المتجذّرة في بلاد العم سام أعادت التأكيد على دور محوريّ لهذه المنصّات، التي باتت بمثابة "بارونات" تؤثّر في التحركات وتوجّهها وتساهم إلى حدّ كبير في تزخيمها.
موقع "تويتر" أدى دوراً مركزياً، سواء في نقل الأحداث والاعتداءات أو بلورة الدّعم وتحشيده، كذلك تعزيز حالة التضامن الإنسانية وتنظيم المشاركة.
يوماً بعد يوم، وفيما كانت التحركات على الأرض تصبح أكثر نضوجاً، وتتّجه نحو التخصّص، كان الخطاب المجتمعي بموازاتها يتطوّر ويبدو أكثر جلاءً ووضوحاً، سواء على المنصات الرقمية أو في التحركات الميدانية التي تعكس المطالب في كلّ منطقة أو ولاية.
هذه الخلاصة الأوّلية لا تبدّد حقائق أخرى تقبع في طبقات أعمق من النظر ومستويات التحليل، إذ إنّ معاينة المنصات بعمق تسلّط الضوء على ازدواجية الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً في التعاطي مع المحتوى على وجه التحديد، ففي حين يتم التعويل على هذه المنصّات، باعتبارها مصدراً للمادة والخبر وأداةً لصناعة المحتوى ومساحة للتفاعل الحر والسليم، يمكن أيضاً أن تُستغلّ من قبل السياسيين وأصحاب الثروات ورأس المال، لتصبح مساحات لنشر "السموم"، كما وصفها الكاتب الأميركي توماس فريدمان. هذا الأمر بدا جلياً في حالة رئيس مجلس إدارة فايسبوك مارك زوكيربرغ.
لقد تم توجيه انتقاد مباشر وعلني إلى منصّة فايسبوك، بسبب تخلّف زوكيربرغ و"مجلس الحكماء" الذي تم تأسيسه الشهر الماضي، عن التدخل لمنع ترامب من نشر مواد مضلّلة أو مؤجّجة للفتنة. وعلى عكس فايسبوك، بادر تويتر إلى وضع ملاحظات على تغريدات الرئيس الأميركي التي تتضمّن أخباراً غير حقيقية أو تحريضاً على العنف.
هذه الامتيازات الممنوحة لترامب من قبل فايسبوك، من شأنها أن تمهّد لنشوء "أوليغارشية جديدة"، منوطة هذه المرة بالمنصّات العملاقة؛ أوليغارشية مبنيّة على مصالح متبادلة ومشتركة بين مالكي منصّات التواصل الاجتماعي والطبقة السياسيّة.
شركة فايسبوك تحديداً تنمو وتتطوّر وتحتكر التكنولوجيا، من خلال استخدام المبالغ الطائلة التي تحصل عليها من دعايات السياسيين أو المنظومة السياسيّة، وليس فقط من ترامب.
كلّ الطّبقة السياسيّة التي تريد الوصول بشكل مؤثّر إلى الرأي العام الأميركي والناخبين لن تجد أفضل من هذه المنصّات. جو بايدن، على سبيل المثال، يستغلّ فايسبوك اليوم أكثر من ترامب، إذ بادر القائمون على حملته في الأيام القليلة الماضية إلى دفع 5 ملايين دولار مقابل دعايات وتسويق سياسي لصالحه، في محاولةٍ مكشوفةٍ لاستغلال الهبّة الشعبية من أجل تكريس حضوره الجماهيري.
من جهة أخرى، ولأنَّ هذه المنصّات تجمع البيانات وتراكمها، ولكون هذه البيانات تمثّل اليوم الوقود الفعلي لأي عملية تخطيط أو قرار سياسي، تترسّخ هذه الأوليغارشية الجديدة بصورة حتمية، يصعب حتى على أصحاب السلطة والمال محاربتها، إذا ما نظرنا فعلاً إلى قدرتها على الوصول إلى الناس والتأثير في كلّ جوانب حياتهم.
تغيّر الأوليغارشية بحسب العوامل المتوفّرة
في العام 1877 شهدت الولايات المتحدة تمرّد موظّفي سكك الحديد في وجه النظام القائم، وكان هدفهم تحسين ظروف العمل، إلا أن بارونات سكك الحديد آنذاك تحركوا لنصرة الرئيس رذرفورد هايز، وتعزّزت الأوليغارشية (تحالف السلطة والمال) باكتساب "هايز" قوة إضافية ترجمها جرأة في استخدام السّلاح لأوّل مرة في وجه المحتجين.
بعد نحو 150 عاماً، وخلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016، قدَّم فايسبوك بطريقة احتيالية مواد شخصية تكشف اهتمامات الناخبين في ما يتعلّق بالقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة.
هذه المعلومات سرعان ما وظّفها الفريق الإعلامي التابع لدونالد ترامب على شكل دعايات موجّهة وهادفة في حملته الانتخابيّة، الأمر الذي مكّنه من انتزاع مكاسب في ولايات مهمّة مهّدت لفوزه في الانتخابات.
كانت خطوة جريئة من ترامب، لكنها لم تكن ممكنة من دون تواطؤ زوكيربرغ وتدبيره، تماماً كالتواطؤ الَّذي حصل بين بارونات سكك الحديد والرئيس هايز في العام 1877.
مع تطوّر مجال البيانات وعلوم الذكاء الاصطناعي وتبلورها، ولا سيّما تلك المتعلقة بتحليل السلوك والرغبات والاتجاهات، بدأت "أوليغارشية جديدة" تترسّخ وتتركّز وتنحصر في أوساط مالكي البيانات والقادرين على تحليلها.
المفارقة اليوم، وبذريعة حريّة التعبير "المقدسة"، لا يخضع فايسبوك لأيّ رقابة سياسيّة، ما يمنحه هامشاً واسعاً في اختياره المواد وحتى الشخصيات التي يسمح بالتروّيج لها، فكان القرار الصّريح بإعطاء الامتيازات لترامب.
اليوم مثلاً، يعدّ الملياردير شيلدون أديلسون من كبار المتموّلين الداعمين لترامب، ولديه تأثير قوي داخل السلطة والساحة السياسية الأميركية بسبب ثروته الطائلة. هو يمثّل وجهاً من وجوه الأوليغارشية القديمة (تحالف السّلطة والمال) في عالم السياسة، ولكن مع دخول شركات عملاقة مثل فايسبوك على خط اللعبة السياسية، وهي شركات تحتكر مخزوناً وافراً من القوة والقدرة على التأثير، بات أصحاب هذه المؤسّسات هم الّذين يرسمون قواعد الأوليغارشيّة، وباتت قوتهم التأثيرية تفوّق قوّة من يملكون المال.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ زوكيربرغ تعرَّض لضغوط عالمية، حتى من قبل الباحثين الذين يموّلهم والموظّفين في الشركة، ولكنه تجاهل كلّ ذلك خوفاً من غضب ترامب (كما غضب على تويتر) أو من خسارة ملايينه.
هل يحمي القانون من الأوليغارشية؟
تنصّ القوانين في ألمانيا على أن أي محتوى تحريضي أو مسيء يجب أن يحذف من منصات التواصل الاجتماعي قبل مرور يوم كامل على نشره. في فرنسا أيضاً، يلزم القانون الشركات التي تتعامل مع عامة الناس بأن تقدم مستندات لتعزيز الشفافية في ما يتعلق ببرمجياتها، وبالتالي الرقابة موجودة، لأنّ المحتكرين والمستغلّين موجودون.
أما في الولايات المتحدة، فإنَّ المادة 230 من قانون آداب الاتصالات تكرس مفهوم الاستنسابية في ما يتعلق بالمحتوى المسموح أو المرفوض، ولا يتيح القانون مقاضاة المنصات.
والدليل الأكثر وضوحاً هو كيفية تعاطي فايسبوك مع المحتوى أو مع الشخصيات الداعمة لمحور المقاومة وحجبها بصورة تلقائيّة. لذا، يمكن اعتبار القوانين القديمة التي لم تواكب بصورة كاملة المتغيرات في الساحة الافتراضية سبباً أساسياً وسانحاً لولادة أوليغارشيات جديدة يمكن أن تكون أكثر خطورة من سابقاتها.
وبالتالي، إن أي تحوّل ديموقراطي حقيقي يجب أن ينظر إلى طرق تعرية التواطؤ المنظم ضمن الأوليغارشية الجديدة، وإيجاد بدائل تحظى بقبول عالٍ لدى الناس، ولا سيما في وجه سياسيي المنظومة المدعومين من كبار المصرفيين والمقاولين.
هذا التحوّل الديموقراطي لا يمكنه أن يتجاهل المطالب العادلة، بفرض قيود وقوانين تنظّم أداء هذه المنصات، منها مثلاً تعديل المادة 230 من قانون آداب الاتصالات الأميركي.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً