هل يشكل قرار المحكمة الأميركية العليا حافزاً لانفصال الولايات؟
لم يضمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب نياته بالتوجه مبكراً إلى المحكمة العليا الاتحادية، مُطمَئِناً إلى تعديل ميزان القوى داخلها لصالح التيار المحافظ، وخصوصاً بعد تعيينه 3 قضاة يحابون الحزب الجمهوري، ولجأ إلى تعويم رغباته بتصريحاته المتكررة بأنه يتعيَّن على المحكمة العليا النظر في جملة القضايا المثارة من جانبه ومن جانب فريقه من المحامين، وهو حقّه الدستوري.
من البديهي الإشارة إلى صلاحيات المحكمة والآليات الناظمة كي تُرفع قضية محدّدة إلى مستوى المحكمة العليا بعد استنفاد درجات المحاكم الدنيا. في الحقيقة، لا يتوفر "نظام معيّن يحتكم إليه طرفا النزاع في مسألة الانتخابات وتصعيد المسألة" إلى مستوى المحكمة العليا، بحسب أستاذ القانون في جامعة "كولومبيا" ريتشارد بريفولت.
لسبر أغوار تلك المسألة الشّائكة، بعدما نجح المرشح جو بايدن بالحصول على 306 أصوات متجاوزاً الحد الأدنى المتمثل بـ270 صوتاً في المجمع الانتخابي، سنحاول معالجة تداعيات التوجه إلى المحكمة العليا، وأبرزها مسألتا صلاحيات محاكم الولايات للنظر في قضاياها ضمن مستوياتها المحلية، والخشية من أن يشكل قرار المحكمة العليا الاتحادية سابقة قضائية تستغل مستقبلاً سلباً أو إيجاباً.
على امتداد التاريخ السياسي للكيان الأميركي، تدخّلت المحكمة العليا أو بعض قضاتها مرتين لحسم نتائج الانتخابات الرئاسية، وذلك عامي 1876 و2001. في الأولى، كان السباق بين الديموقراطي صموئيل تيلدن والجمهوري رذرفورد هايز. زعم كلاهما الفوز وبأن تلاعباً في قائمات الانتخابات جرى في بعض الولايات، ما اضطر الكونغرس إلى تكليف "لجنة خاصة" لعقد جلسة استثنائية مطلع العام التالي 1877، ضمَّت قضاة المحكمة العليا الخمسة ومندوبين عن الحزبين، بيد أن الحزب الجمهوري فاز بفارق صوت واحد.
الحالة الثانية لتدخل المحكمة العليا كانت في العام 2000 بين المرشحيْن جورج بوش الابن وآل غور لحسم نتيجة شديدة التقارب، إذ فصل المرشحين 537 صوتاً من مجموع 6 مليون صوت في عموم ولاية فلوريدا، وسط لغو وتحشيد بإعادة فرز الأصوات وعدّها بأمر المحكمة العليا في الولاية، بعد تبيان خلل الأجهزة الإلكترونية في تصنيف أكثر من 61،000 بطاقة انتخابية.
صاغت المحكمة العليا قرارها آنذاك بدقَّة كي لا يستغل كسابقة يمكن الاستناد إليها في المستقبل، وحسمت بموجبه عملية "وقف الفرز" بأغلبية 7 مقابل 2، وصعدت بجورج بوش الابن إلى البيت الأبيض وفق الصيغة أعلاه. ثبت لاحقاً أن بعض قضاة المحكمة العليا التسعة المشاركين في قرار تفضيل جورج بوش الابن، أعربوا عن أسفهم لإقحام المحكمة العليا في دهاليز السياسة، بحسب أستاذ القانون في جامعة "أيوا" ديريك مولر. وربما نستطيع تفسير موقف المحكمة العليا راهناً استناداً إلى الدروس المستفادة من تلك التجربة.
هناك حالة ثالثة مشابهة في الحيثيات لتجربة العام 2000، تمت في انتخابات العام 1824 بين جون كوينسي آدامز وآندرو جاكسون، والتي فاز فيها الأخير بأغلبية بسيطة لأصوات المجمع الانتخابي، ما اضطر إلى رفع المسألة إلى مجلس النواب لحسم النتيجة، انسجاماً مع النص الدستوري.
في الحالة الراهنة، سعت ولاية تكساس (المدعي العام) إلى رفع دعوى قضائية "بدعم من الرئيس ترامب" وتقضي بعدم تخويل مندوبي الولايات الأربع "الحاسمة"، وادّعت أن تلك الولايات مجتمعة انتهكت قوانينها الانتخابية المقرّة من مجالسها التشريعية. رفضت المحكمة العليا النظر بها، موجّهة ضربة قاسية إلى جهود الرئيس ترامب لإبطال نتائج الانتخابات.
قرار المحكمة العليا هنا أيضاً صيغ بحذر شديد لفصل السلطات الفيدرالية وللولايات، وجاء فيه أنّ ولاية تكساس ليس لها صفة قانونية لرفع قضيّة ضد "ولايات جورجيا ومشيغين وبنسلفانيا وويسكونسن". دعوى "تكساس" ضد تلك الولايات اندرجت تحت بند "أزمة بين الولايات"، ما يخوّل المحكمة العليا الاتحادية التدخل، بحسب نصوص الدستور الأميركي. سبق تلك الدعوى رفض المحكمة العليا أيضاً النظر في قضية التدخل لإبطال جملة أصوات في ولاية بنسلفانيا وقلب النتيجة لصالح الرئيس ترامب.
رمى الرئيس ترامب وأعوانه "من وراء دعوى تكساس"، والتي انضم إليها مجموعة إضافية من المدّعين العامّين في 17 ولاية أخرى، إلى تسجيل سابقة في القضاء الأميركيّ، وتجاوز الشرط الأساسي الذي تأخذ فيه المحكمة العليا قضية مباشرة من دون انتظار نتائج قرار المحاكم الأدنى مستوى، وهو أن "على الولاية صاحبة الدعوى إثبات ضرر لحقها"، والذي أخفقت فيه الدعوى بشدة منذ البداية.
شكّلت "قضية تكساس" اصطفافات وتحالفات جديدة على أرضية سياسية وحزبية صرفة، رمى أصحابها إلى المثول التاريخي والنقاش أمام المحكمة العليا حول مستقبل الدولة، وخصوصاً بعد تسجيل نحو 40 ولاية أخرى وجهات نظرها أمام المحكمة العليا بمساهمة "كأصدقاء المحكمة"، للتأثير في آلية تفسير المحكمة العليا للنصوص الدستورية، وليس بحافز ميل النتائج الانتخابية فيها.
على سبيل المثال، ولاية أريزونا التي كانت تحسب على الحزب الجمهوري، والتي فاز بها جو بايدن الديموقراطي، قدَّمت وجهة نظرها، وكذلك فعلت ولايات أخرى، منها ولاية مونتانا التي تقدَّمت بوثيقتين، إحداهما لمدعيها العام الجمهوري، والأخرى لحاكمها الديموقراطي، بيد أنَّ القضيَّة لن تنتهي عند هذا المستوى في البعد القضائي الصرف الذي يحتكم إلى مدرستين في تفسير نصوص الدستور والبناء عليها: الأولى هي مدرسة "الأصوليين" الذين يتقيّدون بالنصوص حرفياً، وكانت سائدة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ودخول عناصر وعوامل جديدة إلى المشهد السياسي، والأخرى تفسر النصوص بنظرة عصرية تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الاجتماعية والسياسية، والتي دشَّنها قاضي المحكمة العليا إيرل ووران في العام 1950.
ومنذئذ، درج مصطلح "محكمة ووران" على المحكمة العليا الاتحادية التي تحمّلت تفسير الدستور باعتباره "وثيقة حية" ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الحديثة والعصرية، ونجم عنها عدد من تشريعات اجتماعية "ليبرالية" لم يكن لها حظ في السابق، نتيجة توازنات تميل بشكل كبير لصالح التيار المحافظ والمتشدّد.
أبرز القضايا "الخلافيّة" التي أثارتها "محكمة ووران" كانت النظرة إلى مادة التعديل الثانية في الدستور حول اقتناء السّلاح. الرؤية العصرية اعتبرت أن النصّ الدستوريّ بحقّ الحكومة الاتحادية بالاحتفاظ بجيش فاعل لحماية مصالحها "ينفي الحاجة الأصلية لوجود ميليشيا" مسلحة، والتي يصرّ عليها التيار المحافظ حديثاً لاقتناء السلاح بوفرة وكثافة.
قرار المحكمة العليا، وفق الأحكام الدستوريّة، لم يحسم المسألة المرفوعة أمامها، مكتفياً بردٍّ يتعلّق بحق ولاية تكساس من عدمه في رفع المسألة، والتقدم بها على مستوى المحكمة العليا الاتحادية. وقد تستنهض المسألة عينها صلاحيات محاكم الولايات في المستقبل، بعد هدوء عاصفة الانتخابات والاطمئنان النسبي إلى السيطرة على الفيروس.
من أبرز الفوارق والتباينات الديموغرافية التي أفرزتها جولة الانتخابات الرئاسية لهذا العام هو التحشيد الكثيف لسكان المدن في مقابل جمهور الأرياف المتباعدة الأطراف، والذي يميل إلى تأييد من يخاطب غريزته، ليس عن قناعة داخلية، بل بفعل الهوة الاقتصادية والاجتماعية التي قضت على أحلام الكثيرين، وخسارتهم مصالحهم الاقتصادية الصغرى والمتواضعة، في ظل غياب تام لدور الساسة والحكومة على السّواء.
المعلّق الإذاعي اليميني الشهير، راش ليمبو، خاطب جمهوره لإعداده في سبيل تقبّل احتمال تشظّي صيغة الاتحاد الفيدرالي القائمة وانشقاق بعض الولايات، مثل تكساس، كتعبير عن رفض ذاك الجمهور لقرار المحكمة العليا التي انتهكت الدستور، بحسب تفسير سياسييهم وتحشيد الجمهور عليها.
مسألة الانشقاق ليست رغبةً أو طلباً جديداً طرأ على المشهد السياسيّ، وخصوصاً لدى ولاية تكساس، التي ينوي أحد أعضاء مجلسها التشريعي، كايل بيدرمان، تقديم مسودة قرار يسمح بإجراء استفتاء في عموم الولاية للتصويت على خيارين: إما الانفصال وعودتها كجمهورية مستقلة، وإما البقاء ضمن الاتحاد الفيدرالي.
تلويح ولاية تكساس بالانفصال يتلاقى مع دعوات انفصال سابقة من ولايات محسومة للحزب الديموقراطي مثل كاليفورنيا. وقد يشكّل رفض ترامب نتائج الانتخابات وإصراره على عدم الاعتراف بشرعيتها حافزاً جديداً لرواج نزعات الانفصال للعديد من الولايات.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً