تنامي فرضيّة عدم الحسم في الانتخابات الأميركية.
استطاع الرئيس الأميركي دونالد ترامب جرّ خصومه ومنافسيه السياسيين إلى مربّع الإثارة والموقف الأضعف في البحث عن بدائل للاقتراع الانتخابي، مصعّداً من تشكيكه لاعتماد سلطة البريد العادي وسيلة للانتخاب غيابياً، والإعلان عن اعتبار النّتائج مزورة في حال خسارته، والتلويح بإمكانية تأجيل موعد الانتخابات.
تصريحاته وهجومه الشرس على أركان المؤسَّسة أُضيف أيضاً إلى منسوب القلق الدائم بين أقطاب الحزب الجمهوري من إقبال مكثّف على صناديق الاقتراع، والذي سيستفيد منه المرشّحون المنافسون، سواء الحزب الديموقراطي أو المستقلون وحزب الخضر.
انبرى كبار قادة الحزب الديموقراطي لاتهام الرئيس ترامب بالسعي إلى "التلاعب" بنتائج الانتخابات، بتقليص الاعتماد على التصويت بالبطاقات عن بُعد، واستخدام البريد العادي كآلية مضمونة لذلك، وخصوصاً أنَّها هيئة "مستقلة" مموّلة من الكونغرس، وبمشاركة قطبي الحزبين في إدارتها، فضلاً عن زيادة اعتماد الناخبين على الاقتراع بالبريد نتيجة تفشي جائحة كورونا.
كما حقَّق الرئيس ترامب قسطاً من أهدافه في صرف الأنظار بعيداً من تدهور الأوضاع الاقتصاديَّة، ولو مرحلياً، والطعن في نتائج الانتخابات قبل إجرائها، ونيّته تأجيل الانتخابات، ما وضع خصومه في خانة التشبّث بالنصوص الدستورية لإجراء الانتخابات في موعدها، وخصوصاً أنها لا تمنح رئيس البلاد صلاحية تغيير موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في "أول يوم ثلاثاء يتبع أول يوم اثنين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر"، الذي يوافق الثالث من ذلك الشهر هذا العام.
كما ينصّ الدستور على أنّ الموعد النهائي لولاية الرئيس ونائبه "الساعة 12 ظهراً من يوم 20 كانون الثاني/يناير" من العام 2021. الخبراء في القوانين الدستورية يميلون إلى التفسير بأنَّ الرئيس الذي لم يُنتخب لولاية ثانية بعد انقضاء فترته الرئاسية عليه مغادرة السلطة.
أقرّ الكونغرس قانوناً في العام 1948 يثبّت فيه موعد الانتخابات يوم أول ثلاثاء من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، على أن يتولّى مندوبو "الكلية الانتخابية" مهمة اختيار الرئيس المقبل للبلاد، وفق آلية تمنح الولايات صلاحية "تعيين مندوبيها" بمقاعد محددة توازي المجموع العام لمجلسي الكونغرس وبالتوزيع النسبي المعتمد ذاته.
من تعقيدات الانتخابات الأميركية، تنصّ القوانين السارية على "اجتماع المندوبين لانتخاب الرئيس ونائب الرئيس في كل ولاية، والذين يمنحون أصواتهم في أول يوم اثنين بعد ثاني يوم أربعاء من شهر كانون الأول/ديسمبر"، الذي يوافق 14 كانون الأول/ديسمبر العام الجاري.
وتنصّ مادة أخرى من قانون الانتخابات على إعلان الولايات نتائج انتخاباتها في غضون أسبوع بعد إقفال صناديق الاقتراع، وإرسال أصوات مندوبيها إلى الكونغرس، بتشكيلته القديمة، مع حلول يوم 23 كانون الأول/ديسمبر، ويتم فرز أصوات المندوبين في جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس تعقد "عند الساعة الواحدة بعد ظهر يوم السادس من كانون الثاني/يناير".
وفي حال لم يتأهّل أيّ مرشح لمنصب الرئيس أو نائبه، يختار مجلس النواب الرئيس المقبل، ويختار مجلس الشيوخ نائباً له بالتوازي. بعبارة أخرى، ستعكس تركيبة الكونغرس الجديدة هوية الرئيس المنتخب ونائبه، في حال إخفاق أعضاء "الكلية الانتخابية" في تلك المهمة.
سيسعى كل من الطرفين، الديموقراطي والجمهوري، إلى تجيير النصوص الدستورية والأعراف السائدة لخدمة برنامجهما، ولأقصى الحدود، وسيواجهان تعقيدات المشهد السياسي، في ظل تحدّي الرئيس ترامب لنصوص الاقتراع الانتخابي وآلياته، ومنها الاحتمالات التالية:
1. تباين النتائج بين الأصوات الشّعبيّة وأصوات مندوبي "الكلية الانتخابية"، وتوجّه حاكم الولاية سياسياً وما يتمتّع به من صلاحيات، بدءاً بإبطاء فرز النتائج، وخصوصاً بطاقات التصويت غيابياً، وما ستفرز عنه من عدم استيفاء شروط تعيين المندوبين بعد أسبوع من نهاية الانتخابات.
في تلك الحالة، تحرم القوانين السارية الولاية المعنيّة من ممارسة تصويتها في "الكلية الانتخابية". وتلقائياً، ستتأهب المحكمة العليا للبتّ في تلك النتائج، أسوة بما شهدناه في انتخابات العام 2000 بين المرشحيْن آل غور (عن الحزب الديموقراطي) وجورج بوش الابن. وشهدت أميركا آنذاك تدفّق حشود شعبية إلى مراكز الاقتراع خلال عملية الفرز وتهديد المشرفين على العملية. تكرار ذلك في العام الحالي سيكون أشد عنفاً وانقساماً، وربما سيلقى تشجيعاً من الرئيس ترامب وأنصاره.
كما أنَّ توازن تركيبة المحكمة العليا مهدّدٌ بتردي الحالة الصحية للقاضي روث غينزبيرغ، ما سيحيل النتيجة إلى تساوي الأصوات، 4 مقابل 4، وما سينجم عنه من تعقيدات إضافيّة.
2. رفض إحدى أو بعض الولايات إرسال مندوبيها إلى الكلية الانتخابية، في ظاهرة حيّة لأكبر ولايتين، كاليفورنيا ونيويورك، وإعرابهما عن الرغبة في الانسلاخ عن الاتحاد الفيدرالي. حينئذ، سيفوز الرئيس ترامب تظلّله سحابة شك في شرعيته.
3. اختيار رئيس بالإنابة في حال عدم التوصّل إلى النتائج النهائية قبل نهاية الفترة الرئاسية يوم 20 كانون الثاني/يناير، ويتعين على مجلس النواب اختيار رئيس بالإنابة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ تركيبة مجلس النواب في ذلك اليوم هي الهيكلية القديمة، ولن تعكس حجم الطرف الفائز في الانتخابات التشريعيّة، ما يضاعف من تعقيدات الخيارات المطروحة.
4. تعديل بوصلة مجلس النواب كنتيجة للانتخابات التشريعية، والتي ستحفز، في حال عدم حسم نتائجها، أحد الطرفين على تأجيل الفرز طمعاً في إعلاء المرشح الرئاسي الموالي له، وما سينجم عنه من صفقات سياسية تعقد خلف أبواب موصدة تسفر عن ممارسة ضغوط على هيئات الفرز في الولايات المتعددة لإعلان نتائجها النهائية.
5. يتمّ تبديل المندوبين في حال الطعن في شرعية الانتخابات، ما سيتطلّب من مجالس الولايات التشريعية تعيين مندوبيها والتغاضي عن إفرازات توجّهات الناخبين عبر صناديق الاقتراع، إن تطلّب الأمر.
6. رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي ستقفز تلقائياً إلى منصب رئيس البلاد في حال عدم التوصّل إلى تسمية رئيس ونائبه في الموعد المحدد، 20 كانون الثاني/ يناير، شرط بقاء الحزب الديموقراطي مسيطراً على أغلبية مقاعد مجلس النواب، وفوزها في ولايتها كاليفورنيا، وذلك وفق المادة 19 من القانون الأميركي.
وفي هذا السياق، تجدَّدت مطالب بعض كبار قادة الحزب الديموقراطي للمرشح جو بايدن بعدم التنازل التلقائي نتيجة فرز الانتخابات، ما سيعيد المسألة إلى مجلس النواب ورئيسته لتولي المهمة، بمعزل عن شخص بايدن نفسه.
كل ما سبق من احتمالات "نظرية" قد تطرأ عليها تعديلات تغذيها حالة الانقسام الحاد السائدة في المشهد السياسي، والتحديات المضاعفة أمام قادة الحزبين للتوصّل إلى "حلٍ مُرضٍ"، للحيلولة دون تعريض هيبة النظام السياسي لتحدٍ غير مسبوق، وضرورة التضحية من الطرفين ببعض الرموز صوناً لاستمرارية المؤسسة.
علاوة على ما تقدَّم، يدرك قادة الحزبين المخاطر والتحدّيات الراهنة من توسّع رقعة انتشار الاحتجاجات والاضطرابات المدنية التي تغذيها العنصرية المتأصلة في المؤسَّسات الأمنية، وهم في غنى عن التسبّب بمزيد من الانقسام والتدحرج نحو الأسوأ، وخصوصاً في ظلّ انتشار جائحة كورونا.
تجدر الإشارة إلى أنَّ ما يجري من استعراضات عسكرية الطابع لمؤيدي الرئيس ترامب في عدة ولايات، وإقدامهم على استفزاز المحتجين السلميين أو الاعتداء عليهم، قد يعزّز مناخ الفوضى والاضطرابات التي قد تشهدها بعض مراكز الاقتراع، ما يعطّل العملية الانتخابية في العديد من الولايات.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً