ليبيا بين سردِّية الشعب وسردِّية المُكَوِنات
يصعبُ على عشاق "ربيع الزفت" العربي شرحْ ما يدورُ في ليبيا بعد الإطاحة بحكم العقيد الراحل معمر القذافي. مرحلةُ ما بعد "سقوط النظام" تستدعي بحسب "جبخانة" الخطاب الديمقراطي المزعوم، إجراء انتخاباتٍ رئاسية وبرلمانية حُرّة وتشكيل حكومة ومن ثَمّ العمل وفق تداول سلمي للسلطة وآجالٍ للحكم محصورة زمنياً. هذه السيرورة التي تحملُ السعادة لشعب سيحظى بالطبابة والتعليم ووسائل النقل العصرية والحدائق العامة وبخاصة حرية التعبير وتشكيل الأحزاب والجمعيات وفرص العمل المُيَسر، أي ما يشبه سويسرا وربما أفضل منها، ذلك أن ما بعد "الإستبداد" هو الحرية والرخاء والأزمنة المُلاح.
هذه السردية الساذجة ربما استقرت عن حسن نية وطموح مشروع في أذهان الناس الذين اندفعوا في التظاهرات المطالبة بالتغيير والإصلاح عبر إسقاط أنظمة جمهورية عربية، مترهلة وفاقدة لهامش المناورة منذ نهاية الحرب الباردة. لكن السردية نفسها لا تعدو كونها منافقة، إذ جعلها قادة إسقاط الأنظمة، وسيلة لتحسين شروط التبعية للاجانب، عبر نقل شرائح إجتماعية وسياسية جديدة إلى أعالي السلطة بدلا من تلك التي طال زمنها في الحكم وفقدت شرعية استمدتها من مكافحة الإستبداد الأجنبي، بعد أن خضعت له كما هي حال العقيد القذافي قبل سقوطه. فقد دفع مليارات الدولارات لضحايا "لوكربي" دون الاعتراف بمسؤوليته عن الجريمة وسلّم مشروعه النووي للولايات المتحدة الأمريكية، بُعَيدَ اجتياح العراق.
سردية ما بعد سقوط النظام في ليبيا لا قرابة بينها وبين وعود الربيع "السويسرية" قبل السقوط. فالشعب الموعود بالديمقراطية والمَوعودُ به لرسم مستقبل "اسكندينافي" لهذا البلد، أصبح مكونات على الطريقة العراقية، لكن في إطار المذهبْ الإسلامي الواحد. فقد عاد إلى مرحلة ما قبل السنوسية، أي ثلاث جهات جغرافية وإجتماعية لكل منها حساباتها ورهاناتها على دولة ليبيا المقبلة. عاد الى مرحلة ما قبل "جماهيرية" العقيد المذبوح، فئات قبلية وإتنية تحدو كل منها رغبة جامحة في الإستقلال عن غيرها والإستئثار بكل أو بجزء من النفط الليبي وباتتْ كلٍ منها تبحثُ عن دعم خارجي يؤّمِن مصالحها وتُؤمِن مصالحه داخل ليبيا، ودائماً تحت سقف "الربيع" الموعود النازع أبداً إلى تحسين شروط التبعية للأجنبي أي للطرف الوحيد الذي يملك سلطة توزيع المصالح ومباركتها على الفئات التي تطلب اعتراف "الشرعية" الدولية بأدوارها في وطنها ولا ترى غضاضة في ذلك.
لا يمكن فهم ما يدور في ليبيا هذه الأيام بمعزل عن العناصر المشار اليها تواً. أول اللاعبين الكبار هو المشير خليفة حفتر، أحد الضباط الذين ساندوا "ثورة العقيد" عام 1969. كان قائداً للحملة العسكرية الليبية في تشاد دفاعا عن إقليم أُوزو المتنازع عليه بين البلدين. هُزِمَ بمواجهة القوات التشادية المدعومة بالمدرعات والطائرات الفرنسية. ما كان بوسعه العودة مهزوما إلى طرابلس تحت طائلة تحمل نتائج الهزيمة منفرداً. اختار التعامل مع المنتصرين وعاش في الولايات المتحدة وفي البلدان التابعة لها ثم أصبح ثورياً مع المنقلبين على القذافي ومن بعد أحد قادة "الربيع" الكبار والمرشح الأبرز لتولي الحكم في ليبيا اذا ما قدر له أن يسيطر على طرابلس. بالمقابل يبدو السيد فايز السراج مخلصا إلى حد التطابق لسيرة والده الحاج مصطفى السراج الذي كان وزيرا في العهد السنوسي وقياديا بارزا في "المؤتمر الوطني الليبي" حليف التيار الإسلامي في مصراته. الإبن كما الأب يتحالف مع المصراتيين الذين لعبوا دورا حاسما في الإنقلاب على القذافي ويريدون اليوم الإحتفاظ باليد العليا على الحكم والثروة في ليبيا.
بين هذا وذاك مراكز قوى في الزنتان وسبها وغيرها أقل أهمية تستدرج عروضاً من هذا ومن ذاك. تلك هي ملامح ثورة "الربيع" الليبي لكنها لا تكفي وحدها لتفسير ما يدور على الأرض. ذلك أن لكل "ربيع" ذئابٌ أجنبية ترصد مصالحها وتتابعها إلى نهاية المطاف. في ليبيا ما بعد القذافي، تسعى الدول الأوروبية إلى ضبط الصراع ضمن حدود لا تتيح قراراً مركزياً ـــــ يمتلكه السراج أو حفتر ـــــ كي لا تجد نفسها في موقع من يتلقى الإملاءات بدلا من فرضها. لذا نرى فرنسا والمانيا وبريطانيا تدعم حفتر ضمنا وتصر على إخضاعه للشرعية الدولية أي حرمانه من التفرد في الحكم ومن قهر خصومه في طرابلس ومصراتة والزنتان.
من الجهة الثانية نجد إيطاليا التي تعتبر ليبيا ميناءها الرابع، أقرب الى السراج وتراهن على أن تكون معه الرابح الأول أن قُيِّضَ له الإنفراد بالحكم أو الوصول الى المركز الثاني في حالة التسوية، المستبعدة في ظل الظروف الراهنة.
ومن جهة ثالثة نرى قطر وتركيا تتمسك بوجوب تولي الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي موقعاً اساسياً في الحكم الليبي المقبل. في حين تراهن السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة على خليفة حفتر الذي زار "المملكة" عشية حملته العسكرية على طرابلس، لا بل عمل منذ بعض الوقت على نشر المذهب الوهابي في الشرق من خلال الداعية ربيع المدخلي وهو أحد المشايخ السعوديين الكبار. وتشير الأنباء الواردة من شرق ليبيا الى أن المشير حفتر فرض على النساء عدم السفر بدون محرم طبقا لعقيدة المدخلي السلفية.
من هذه الزاوية الواقعية تبدو "الثورة" الليبية شديدة الرجعية، بل قاصرة حتى عن "تحسين" شروط التبعية للأجانب، كائنا من كان المنتصر فيها، على الرغم من أرجحية المشير حفتر حتى الان. ونشهدُ فيها كما في اليمن ومصر وتونس تراجعاً للإخوان المسلمين الموعودين بوراثة الأنظمة السابقة، فهم تخلّوا عن التنظيم الدولي للإخوان لصالح المشاركة في السلطة بشروط ودستور غيرهم كما في اليمن و في تونس أو استُبعِدوا وأُدخِلوا السجون ومارسوا التمرد المسلح كما هي الحال في مصر. أما في ليبيا الأكثر قربا وإخلاصا لقطر وتركيا رغم تعرضهم لضغوط قد تفضي إلى حصر نفوذهم في مصراتة.
إن الأُفُق الذي ينفتح أمام إعادة تكوين السلطة والدولة في ليبيا مرتبطٌ إلى حد بعيد بتكوينها القبلي والإثني والجهوي وليس بسردية "الشعب يريد إسقاط النظام". ذلك أن الشعب ما عاد شعباً بعد سقوط الأنظمة. صار "مكونات" بحسب المُصطلح الأمريكي المُجَسّدِ في العراق وهذه المكونات خضعتْ من قبل لحكم الأسرة السنوسية مع غلبة للشرق الليبي، أطاحها القذافي الذي أقام حكماً مركزياً كانت الغلبةُ فيه لغرب البلاد. والمتوقع أن يستقر الحكم مجددا مع أرجحية للشرق إذا ما انتصر المشير حفتر بدعم أوروبي وأمريكي وروسي وسعودي وهابي... أما مصير "ربيع" الإخوان المزعوم فهو أشبه بمصير "صندوق بو لمعة" في الحدوتة المصرية التي تقول "سرقوا الصندوق (المال) يا بو لمعة" فيجيب "ما فيش مشكلة المُفتاح معايا". ولدى الإخوان "ما فيش مشكلة" ما دام "الشعب معاهم"!