عن دخول واشنطن وخروجها من الشرق الأوسط عبر البوابتين المصرية والسورية
دخلت الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط بقوّة بعد العدوان الثلاثي على قناة السويس عام 1956 فهل تخرج منه بعد العدوان الثلاثي الأخير على دمشق؟
الرئيس الأميركي دونالد ترامب أجاب عن السؤال مباشرة أو عبر الناطق باسمه في مناسبات ثلاث، مؤكداً خروج بلاده من منطقتنا لكن قسماً كبيراً من الرغبويين ما زال يشكّك بالنوايا الأميركية ويُراهن على بهلوانيّة ترامب معتبراً أن كلامه تكتيكي لاستدراج المزيد من العروض الخليجية والغربية.
يقترب الجواب الشامل عن السؤال بقدر الاقتراب من تفاصيل العدوان الثلاثي الأول ووضع العدوان الثلاثي الراهِن في المسار التاريخي الذي يستحقه.
لقد صار معروفاً أن الولايات المتحدة الأميركية خرجت من الحرب العالمية الثانية قوّة دولية بلا مُنازع. استخدمت السلاح النووي ضدّ اليابان وسيطرت على هذا البلد، كما سيطرت على القسم الأكبر من ألمانيا النازية. وانخرطت منذ العام 1956 في بناء شرق أوسط يتناسب مع مصالحها ومع موزاين القوى الجديدة خلال الحرب الباردة ، لكن تصدّر واشنطن للعالم الغربي كان يحتاج إلى محطة تاريخية حملها العدوان الثلاثي على مصر في العام المذكور.
يمكن تلخيص هذا العدوان بسيناريو حرب عقابيّة ضد جمال عبدالناصر دبّرتها فرنسا وبريطانيا ضد الزعيم العربي الذي تجرّأ على تأميم قناة السويس موجّهاً صفعةً مدوّية للبلدين. وضع الفرنسيون سيناريو عدوان تبدأه إسرائيل بذرائع واهية وتكمله فرنسا وبريطانيا بحجّة الفصل بين الطرفين عبر احتلال قناة السويس وخلع "الريس " من الحُكم. قاوم ناصر الذي وصِفَ حينه كما الأسد اليوم ب "الديكتاتور" و" هتلر إفريقيا " ، وأدت مقاومته إلى تدخّل الولايات المتحدة وروسيا في هذا النزاع وتوجيه إنذار إلى لندن وباريس بالانسحاب من مصر من دون قيد أو شرط .
فشل العدوان الثلاثي ووضع حداً لسيطرة الثنائي البريطاني الفرنسي على هذه المنطقة منذ سايكس بيكو.
وكان مؤشراً لا يُخطيء على انحسار قوّة الطرفين الموروثة من الحربين الأولى والثانية ، فضلاً عن تعرّضهما لحروب استنزاف في مستعمراتهما ولانهيار النظام الامبراطوري الذي أقامه الطرفان منذ الثورة الصناعية.
ستضمن واشنطن مصالح حلفائها في المنطقة طيلة الحرب الباردة وستتدخّل لاستعادة الدولة الكويتية التي دمّرها صدّام حسين وستُطيح بالنظام الصومالي وستنظّم مقاومة ناجحة للروس في أفغانستان ، وستحتل العراق وتشترك من بعد في تدمير ليبيا و سوريا واليمن.
حصيلة هذه التدخّلات كانت سلبية للغاية بحسب باراك أوباما ومن بعده دونالد ترامب الذي أكد مؤخراً " لقد دفعنا 7 ترليونات دولار في الشرق الأوسط من دون أن نربح شيئاً " ونسي أن يتحدّث عن الخسائر البشرية التي خلقت مزاجاً رادِعاً لدى الرأي العام الأميركي ضد أي تدخّل في المنطقة.
عشيّة العدوان الثلاثي على سوريا كان ترامب على وشك سحب مُقاتليه من هذا البلد ، بيْدَ أن ضغوطاً فرنسية وإسرائيلية وخليجية حملته على التريّث. ومن غير المُستبعَد أن تكون هذه الضغوط مرتبطة بخطّة العدو الثلاثي على سوريا بذريعة الكيماوي، وأن يكون الهدف منها ضرب البنية التتحية للجيش السوري والرهان على فوضى وبلبلة تؤدّي إلى انقلاب يُطيح الرئيس الأسد ، ويفتح نافذة كبيره للخروج من الأزمة السورية بانتصار رمزي يعوّض عن الانتصار الشامل في الحرب ، ذلك أن الرئيس السوري تحوّل بفعل الحرب إلى رمزٍ لها، إن بقي ينتصر محوره وإن رحل ينتصر أعداؤه.
راهنّ الرئيس ماكرون على دورٍ غربي في رسمِ مستقبل سوريا بعد العدوان، بالاستناد إلى اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان والأردن وأوروبا ، طالما أن الاستناد إلى منظمات مُقاتِلة بات شديد الصعوبة. وبدا مستعجلاً إلى حد الإيحاء بأن هذا الرهان يمثل دول العدوان ، لكن الناطقة باسم ترامب أطاحت بهذا الرهان خلال ساعات إذ أكدت أن الولايات المتحدة تتطلّع إلى يومٍ قريبٍ يعود فيه جنودها إلى بيوتهم ، وهو الموقف نفسه الذي أشار إليه ترامب لحظة الحديث عن الضربة وقبل أيام من وقوعها.
كشفت تفاصيل العدوان عن وسائل سوريّة فعّالة للردّ على الصواريخ الغربية فضلاً عن تضافر المؤشّرات حول " مسرحية الكيماوي " ، وصولاً إلى أحاديث منسوبة لكبار الجنرالات الأميركيين حول صحّة الصواريخ الروسية الجديدة " سوبر سونيك ". كل ذلك يوحي بأن الوجهة الأميركية المُعلنَة للانسحاب من الشرق الأوسط قد صارت بعد العدوان أكثر قرباً من الواقع. وللخائفين من هذا الانسحاب ينصح ترامب بأن تتمركز قوات عربية مكان القوات الأميركية في سوريا وهو أمر مثير للسخرية بنظر الخبراء العسكريين الذين لا يحملون هذه القوات على محمل الجد.
ثمة افتراض واقعي يفيد بأن الشرق الأوسط سيُبنى حول الطرف السوري المُنتصر في هذه الحرب، وبالتالي ستكون روسيا ومحور المقاومة فضلاً عن تركيا في قلب هذه العملية ، كما ستكون الصين الطرف الأبرز الذي يتولّى إعادة إعمار بلاد الشام بمعزل عن الغرب. وهذا يعني أن الأطراف التي راهنت على سقوط النظام السوري ستدفع ثمن سياستها الفاشلة بما في ذلك إسرائيل التي سيتدنّى موقعها الاستراتيجي في هذه المنطقة إلى حد يـُرعب قادة الكيان الصهيوني الذين يتظلّمون هذه الأيام بالقول اإن واشنطن ستتركهم وحدهم بمواجهة إيران.
إن خروج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط كان يحتاج إلى "بارود" الانسحاب الذي تمثل بالعدوان على سوريا وفق سيناريو كاذِب يشبه إلى حدٍ بعيد سيناريو غزو السويس عام 1956 وبذلك تكون واشنطن قد دخلت إلى منطقتنا من بوابة القاهرة وخرجت من الباب الدمشقي. ولعلّ الفارق بين هذين الحدثين يُحيلنا إلى مقولة ماركس الشهيرة عن انقلاب لويس بونابرت في فرنسا عام 1848 حين قال " يرى هيغل إن الأحداث الكبرى في التاريخ تتكرّر مرتين. ولكنه نسي أن يذكر أن المرة الأولى بمثابة مأساة والثانية مهزلة".