سيناريو الجحيم ليس قَدَراً
تردّ واشنطن بحجّة الحفاظ على السلم والأمن الدوليين عبر فرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران وتهدّد كل شركات العالم التي تعمل في السوق الإيراني بحرمانها من السوق الأميركي، مفترضة أن العقوبات ستُعيد طهران إلى طاولة المفاوضات كما أعادتها في ما مضى إلى مفاوضات خمسة + واحد.
بين سيناريو الجحيم وسيناريو الخروج السلمي من أزمة النووي الإيراني، يقف الشرق الأوسط على مُفترق طُرق تقود كلها إلى مطاف واحد
أيام قليلة تفصلنا عن القرار الذي سيتّخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن انسحاب بلاده أو بقائها في الاتفاق النووي مع إيران. بالانتظار، يبدو أن الأطراف المعنية بهذا الموعد قد اتّخذت القرارات التي تتناسب مع الموقف الأميركي المُتوقّع سلباً وإيجاباً. والموازنة بين الاحتمالين ليست عشوائية. فلو كان الخروج الأميركي من الاتفاق محسوماً لما احتاج الأمر إلى ربطه بتاريخٍ مُحدَّد.
العرض الإسرائيلي الأخير حول خطة إيرانية سرّية لتصنيع خمس قنابل نووية على غرار قنبلة هيروشيما وقطع العلاقات المغربية مع إيران عشيّة اتّخاذ القرار الأميركي وتعيين صقور في الإدارة الأميركية لا يحبّذون الاتفاق، يوحي ذلك كله بأن واشنطن قد وضعت أصدقاءها في جو القرار الذي ستتّخذه واستدرجت مواقف تعبويّة تعينها في تبريره. الإشارة إلى موقفيّ تل أبيب والرباط لا تستدعي إهمال مواقف المملكة العربية السعودية وأصدقائها، سوى أن الرياض ومن معها يُعبّرون عن مواقف معادية شبه يومية إزاء الجمهورية الإسلامية، وبالتالي لا تزامن بين مواقفهم الثابتة والموقف الأميركي.
دعونا نختبر الفرضية الأكثر تداولاً في وسائل الإعلام حول خروج واشنطن من الاتفاق. ترامب يُقرّر تمزيق الاتفاق النووي الإيراني تنفيذاً لوعدٍ انتخابي قطعه على نفسه واستجابة لضغوط اللوبي الصهيوني ولرغبة المملكة العربية السعودية وحلفاء واشنطن المُتشدّدين. الخروج من الاتفاق سيؤدّي بالضرورة إلى خروج إيراني واستئناف طهران تخصيب اليورانيوم. في هذا الوقت تبادر المملكة العربية السعودية وتركيا وإسرائيل إلى تنشيط برامج نووية عسكرية بحجّة الحفاظ على التوازن الاقليمي، وتُطوى صفحة القوانين الدولية المُكرّسة لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل في العالم.
تردّ واشنطن بحجّة الحفاظ على السلم والأمن الدوليين عبر فرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران وتهدّد كل شركات العالم التي تعمل في السوق الإيراني بحرمانها من السوق الأميركي، مفترضة أن العقوبات ستُعيد طهران إلى طاولة المفاوضات كما أعادتها في ما مضى إلى مفاوضات خمسة + واحد. تفشل العقوبات بسبب التعاون الروسي والصيني مع إيران. يُهدّد ترامب مباشرة أو عبر تل أبيب بضرب الشبكة النووية الإيرانية. لا تعبأ طهران. يُنفّذ ترامب أو نتنياهو أو الإثنين معاً ضربات ضد مباني البرنامج النووي الإيراني. الضرر يكون محدوداً إلى متوسّط لكنه لا يمنع إيران من استئناف مشروعها بعد سنوات قليلة. في هذا الوقت تردّ بإقفال مضيق هرمز الأمر الذي من شأنه أن يرفع أسعار النفط إلى الأقاصي ويُلحِق أذى كبيراً بالاقتصاد العالمي. تضرب طهران وحلفاؤها القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة وإسرائيل... تفتح أبواب الجحيم على مصراعيها ومعها كل التوقّعات الكارثية.
في مواجهة سيناريو الجحيم الذي يرتسم في أفق ما بعد الخروج الأميركي من الاتفاق النووي، تلوح قضية الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط التي تحظى برغبة وموافقة الاستبلشمانت بمختلف مكوّناته ـــــ بما في ذلك ترامب نفسه ـــــ فكيف يمكن الخروج من منطقة مُلتهبة عبر الانخراط مجدّداً. في فييتنام أخرى فيها؟ هنا يلاحظ أن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس ورئيس الأركان الكسندر ميلي وهما من مؤيّدي الاتفاق، يمارسان الضغوط على الرئيس ومعاونيه، وبالتالي العمل على سيناريو آخر شبيه بالسيناريو الكوري الشمالي الأمر الذي يتيح فرصة أكبر لتدخّل أوروبي في هذا الملف وخوض نقاش مفتوح مع طهران حول قضايا أخرى ترفض التفاوض حولها مثل الصواريخ البالستية ودعم حركات المقاومة وسياستها الخارجية في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
معلوم أن تمسّك الأوروبيين بالاتفاق يُضعِف إلى حدٍ كبيرٍ توجّه ترامب المغامِر والخطير لإلغائه. ولربما يُدرك الرئيس الأميركي في لحظةٍ ما ، أو يُدرك المحيطون به أن وزن الأوروبيين في هذه القضية لا يمكن تعويضه بالوزن السعودي أو الإسرائيلي ناهيك بالجامعه العربية المُترهّلة والبائِسة.
في هذا الوقت يكون ترامب قد حقّق إنجازاً تاريخياً وعد بتحقيقه خلال حملته الانتخابية ، ويقضي بنقل سفارة بلاده إلى القدس. فتتم هذه الخطوه تحت دخان التصعيد الكثيف حول الملف النووي الإيراني ، ويعود البحث مجدّداً حول شروط التفاوض على المسائل الأخرى التي ترى أوروبا وجوب بحثها مع إيران وتعتبرها مُكمّلة لملفها النووي.
يفيد سيناريو الجحيم كما سيناريو الخروج من الأزمة ـ وكلاهما افتراضي ــ أن إيران باتت تحتل موقعاً مركزياً في الشرق الأوسط لا جدال فيه وأن القضايا الأساسية في هذه المنطقة لا تُبتّ من دون الحوار معها أو عبر الحرب عليها، وذلك مع إدراك الغربيين وبخاصة الأوروبيين إن الجمهورية الإسلامية لا تريد الهيمنة على الشرق الأوسط. فهم يرون أن القومية الفارسية ليست قومية هجومية وأن فئات واسعة من الشعب الإيراني لا تنزع إلى السيطرة على الآخرين، إذ ترى أن على طهران أن تكفّ عن الاهتمام بسوريا وفلسطين وأن تكرّس جهودها لحل المشاكل الداخلية وهذا لا ينمّ عن ثقافة سياسية محبة للسيطرة واستتباع الآخرين.
وتفيد تطوّرات العقدين الماضيين أن إيران ما عادت تتحدّث عن تصدير ثورتها وأنها تريد الانخراط في العلاقات الاقليمية والدولية بشروطها، خصوصاً أنها لا تعاني بفضل حضارتها العريقة من عقدة نقص تجاه الغرب والثقافة الغربية، وتنظر إلى الغربيين نظرة نديّة وتنتهج سياسة براغماتية وبعيدة عن المغامرة والتهوّر. ولعلّ هذا ما يؤرق خصومها الذين ما برحوا يشيطنون سياستها الخارجية من دون جدوى.
بين سيناريو الجحيم وسيناريو الخروج السلمي من أزمة النووي الإيراني، يقف الشرق الأوسط على مُفترق طُرق تقود كلها إلى مطاف واحد:.. للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية يُقرّر أهل الشرق الأوسط شؤون منطقتهم بالتعاون مع روسيا والصين ، الأمر الذي يؤرق الصهاينة وأصدقائهم ويعمر ليالهم بالكوابيس.