قبل 6 سنە
د. هشام أحمد فرارجة
560 قراءة

لا جدوى في دموع التماسيح عندما ينعدم الضمير: ترامب وحقوق الانسان

صحيح أن الرئيس الامريكي الحالي، دونالد ترامب لا يتحدث بلغة حقوق الانسان ولا يتبجّح بأنه من أنصارها ودعاتها. وصحيح أن ترامب لا يأبه كثيرا بما يحدث في العالم من عذابات، وحتى في الولايات المتحدة نفسها من انتهاكات صارخة لابسط قواعد القانون الدولي الانساني. بل وأيضا صحيح أن ما يعني ترامب، بالدرجة الاساسية، ليست المثل والقيم الانسانية العامة، بمقدار ما يعنيه ما يستطيع تحقيقه من مكاسب وأرباح وفوائد تعود عليه هو شخصيا بالنفع.

   ولكن رغم هذه الانعطافة للرئيس الامريكي بعيدا عن التغني بالدفاع عن حقوق الانسان، وتصدر المناداة باحترامها، والتعبير عن الاستعداد للدفاع عنها، اّلا أن الولايات المتحدة كانت، ولا زالت، تستخدم سنفونية حقوق الانسان كأداة تبريرية لغرض في نفس يعقوب، وذلك لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية واقتصادية بالغة الاثر في أكثر من بلد في العالم، في ذات الوقت الذي يزخر فيه سجل التاريخ بعديد الممارسات الامريكية التي تضرب بعرض الحائط حقوق الانسان، وتقلب منطق الاشياء رأسا على عقب، بحيث تشرّع ما هو غير قانوني، وتدعم المستبد ضد المستضعف، وتقيم الدنيا ولا تقعدها عندما يقوم غيرها ممن ليس من الاصدقاء أو الحلفاء بالمساس بحقوق الانسان. فكل ما يكابده قطاع لا بأس به من مواطنيها من حرمان اقتصادي، وانعدام للمأوى والمسكن، وتشرد في الشوارع، وانغماس في أعلى درجات الجريمة المنظمة في العالم، وتزايد للمعاناة بسبب الفقر الذي أخذت تصل نسبته الى قرابة 15% في المجتمع، وتعرض لوطأة شظف العيش والكد في تحصيل قوت الحياة اليومي عند الكثيرين، كل ذلك وأكثر لا يبدو يندرج ضمن سنفونية حقوق الانسان لدى صناع القرار وراسمي السياسة في الولايات المتحدة.
  ورغم هذا الانفصام الصارخ في السياسة الامريكية فيما يتعلق بحقوق الانسان، اّلا أن الولايات المتحدة قد شنت أعتى الحروب وأحدثت أفظع الدمار ضد عدد لا يستهان به من الشعوب والبلدان عبر العقود. فباسم حقوق الانسان، وبالطبع لاسباب اخرى معلنة وغير معلنة، قطعت الولايات المتحدة آلاف الاميال لشن اعتداءاتها على فيتنام وأفغانستان. وباسم حقوق الانسان، قامت الولايات المتحدة بتدمير العراق واحتلاله وقتل وتشريد الملايين من شعبه. وباستخدام ذريعة حقوق الانسان، تسارع الولايات المتحدة اليوم للتضييق على النظام السياسي في أيران من خلال العقوبات الاقتصادية. وأيضا اعتمادا على استخدام معزوفة حقوق الانسان، قامت الولايات المتحدة، مستعينة أحيانا ببعض حلفائها في منطقة الشرق الاوسط وأوروبا، بتوجيه ضربات صاروخية لسوريا، بحجة استخدام النظام السياسي أسلحة كيماوية ضد شعبه. وعكفت الولايات المتحدة في هذه الآونة على اعادة انتاج تهديداتها لسوريا بتجديد القصف بسبب ما تزعمه من نية للنظام السوري لتكرار استخدامه للسللاح الكيماوي، ربما في مدينة ادلب وضواحيها. ولا يغيب عن الذهن ما ارتكبته الولايات المتحدة من مجازر تقشعرّ لها الابدان على أراضيها ضد السكان الاصليين الذين يعرفون بالهنود الحمر، وفي أمريكا اللاتينية والهند الصينية. وبالتأكيد، فان التاريخ لن يغفر للولايات المتحدة أنها الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي، كما فعلت أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينتي هيروشيما ونكزاكي في اليابان.
  وفي ذات الوقت، تجد الولايات المتحدة تتجاهل، كليا، انتهاكات ممنهجة ومنتظمة لابسط حقوق الانسان في اليمن، وأيضا في ميامنمار ضد أقلية الروهينيا المسلمة. وليس سرّا أن هذه الانتهاكات الصارخة تتم على أيدي بعض من هم تابعون وحلفاء للولايات المتحدة، ممن تزوّدهم بقنابل القتل والحرق للاطفال والنساء وكبار السن. محللون كثيرون يجمعون أن هذه الانتهاكات ترتقي الى كونها جرائم حرب بشعة. فمشاهد الموت، خاصة مؤخرا، قدهزت العالم بسبب فظاعتها. وما وثّقته تقارير أممية عدة من معلومات، لا يبدو أنها حركت وازعا أو ضميرا عند صناع السياسة الامريكيين.
  ولكن هناك في محيط الولايات المتحدة نفسها من التطورات التي تدعو للفزع وتثير الريبة بخصوص عدم اكتراثها لابسط قواعد حقوق الانسان، حتى عند بعض مواطنيها. ففي العام الماضي، تعرضت منطقة بورتوريكو لاعصار عاتٍ يدعى ماريا. وعندها سارعت ادارة ترامب لاعطاء الانطباع أنها قدمت كافة أشكال العون والمساعدة لهذه الجزيرة للتقليل من حجم الخسائر البشرية والاضرار المادية. يذكر أن مواطني بورتوريكو هم مواطنون أمريكيون يحملون الجنسية الامريكية بحكم القانون، رغم أنهم لا يستطيعون المشاركة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية من حيث الاقتراع. فالولايات المتحدة فرضت سيطرتها على بورتوريكو عام 1898 بعد الحرب الامريكية الاسبانية، ومنحت الجزيرة صفة منطقة أمريكية. وبعد عقدين، أي في عام 1917، أقر الكونغرس الامريكي حق المواطنين في بورتوريكو بأن يتمتعوا بكامل حقوق المواطنة الامريكية.
  وبعد انتهاء الاعصار، تبجح ترامب بأن أداء ادارته تجاه اعصار ماريا كان أفضل بآلاف المرات من أداء ادارة جورج بوش الابن المتقاعس تجاه اعصار كاترينا في ولاية لويزيانا عام 2005. يذكر أن اعصار كاترينا قد تسبب في موت قرابة ألفي شخصا، نتيجة لعدم توافر معدات الانقاذ وبسبب عدم جاهزية الدوائر المعنية للتعامل مع كارثة من هذا النوع. فادارة ترامب تبجحت أنه بفضل جهودها، لم يسقط في اعصار ماريا في بورتوريكو سوى أقل من 70 شخصا. ولكن دراسة نشرت نتائجها هذا الاسبوع, بينت أن عدد القتلى الذين تم احصاؤهم حتى الآن قد اقترب من ثلاثة آلاف شخصا. هذا العدد يساوي تقريبا من سقطوا نتيجة لاعتداءات الحادي عشر من أيلول عام 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك وعلى البنتاغون في واشنطن، ذلك الحدث الذي استغلته الولايات المتحدة لفرض عربدتها وغطرستها على العالم، بشكل عام، وعلى العالم العربي والاسلامي، بشكل خاص، ضمن ما يعرف بالحرب على الارهاب .
  ورغم أن الاعلام الامريكي قد تطرق الى هذه الفجوة المدوية بين الرقمين في أعداد الضحايا البشرية، اّلا أنه لم يعر الامر سوى اهتمام باهت وفاتر. ولا تكاد تسمع عن الموضوع شيئا في وسائل الاعلام الامريكية في اليوم التالي بعد صدور الدراسة المتعلقة. وأما ترامب، فقد عاد ليشيد بجهود ادارته عندما سئل عن الموضوع.
  ولو كان هذا التقصير في المحافظة على حياة البشر قد حدث في بلد آخر في العالم لا يروق للولايات المتحدة، لزلزلت الارض من تحت أقدام قادته، ولتم تجريد مجتمعه من انسانيته ولحشدت ضده أكثر أنواع الاسلحة فتكا وتدميرا.
  فالولايات المتحدة تحلّل لنفسها ما تحرّمه على غيرها. وتستخدم حقوق الانسان كوسيلة لتبرير تدخلاتها واعتداءاتها واحكام سيطرتها. بينما هي لا تلتفت لككثير من أبسط القواعد الانسانية لبعض مواطنيها، خاصة اذا ما كان لون بشرتهم داكنا كمواطني بورتوريكو.
  فمن يعتقد أن الولايات المتحدة هي زعيمة حقوق الانسان في العالم، عليه أن يراجع حساباته، ويعيد تشكيل معتقداته. ما يبرع فيه الاعلام الامريكي، كالمؤسسة السياسية، هو عملية المنتاج لتبيان أن الولايات المتحدة هي الداعية الاولى لحقوق الانسان في العالم، في الوقت الذي يمكن الاقرار فيه بأنها الداعية الاولى لحقوق الحيوان. ولو كانت الولايات المتحدة تعير حقوق الانسان في العالم قدرا يسيرا من الاهتمام الذي تعطيه لحقوق الحيوان على أراضيها, لكان حال البشرية أفضل لكثير مما هو عليه الآن. ففي نهاية شهر حزيران من هذا العام، مثلا، انتاب الولايات المتحدة شعور بالحزن الشديد على وفاة كوكو. كوكو كانت غوريلا في احدى المحميات في ولاية كاليفورنيا، وتوفيت عن عمر ناهز 46 عاما. وحسب الرواية المقدمة آنذاك، فان كوكو تعتبر كائنا خاصا لانها دُرّبت على استخدام لغة الاشارة للصم، وأتقنتها. المفارقة الغريبة هي أن ذلك قد حدث في ذات الوقت الذي تم فيه فصل أكثر من 2400 طفلا لاجئا عن أمهاتهم وآبائهم بينما كانوا يحاولون عبور الحدود الامريكية من المكسيك، في ظروف أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها وحشية ومجردة بالكامل من أية مشاعر انسانية.
  فالانتقائية في التسليط على حقوق الانسان هي الاساس بالنسبة للولايات المتحدة، بما ينسجم مع مصالحها، زمانا ومكانا. وما عدا ذلك، فان الآلة الاعلامية والمؤسسة السياسية بارعتان في تجريد المستضعفين من انسانيتهم، وحتى من حقهم في الحياة الكريمة. وكل ما يذرف من دموع التماسيح حيال واقع حقوق الانسان هنا وهناك ليس فيها من جدوى حقيقية.
  بالتأكيد، لا يتسع المجال هنا لسرد الكثير من الامثلة والوقائع التي تبيّن كيف أدارت الولايات المتحدة ظهرها لحالات صارخة تعرضت فيها حقوق الانسان للهدر الكامل. ولكن صمت الولايات المتحدة، ومن ثم بكاءها المتأخر، على عمليات الابادة الجماعية التي جرت في رواندا في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكذلك استخدام الاغتصاب ضد النساء المسلمات في البوزنا والهرزك في يوغسلافيا سابقا كأداة في الحرب، في نفس العقد، وأيضا في ميانمار الآن، لا يمكن القفز عنه. وأما تواطؤ الولايات المتحدة مع الاحتلال الاسرائيلي، بل وتمكينه من تعريض الشعب الفلسطيني لافظع عمليات انتهاك حقوق الانسان، فحدّث ولا حرج. وما قرار ادارة ترامب مؤخرا لوقف التزاماتها المالية السنوية لاكثر المنظمات الانسانية استحقاقا، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، اّلا دليل جديد وقاطع على مدى ازدراء الولايات المتحدة لحقوق الانسان. وما انسحابها من مجلس حقوق الانسان اّلا تتويج للنظرة، بل السياسة الامريكية بهذا الخصوص.
  فواقع الامر هو أنه اذا ما كانت هناك مسحة انسانية عند المواطن الامريكي العادي، فان فظاظة وفظاعة ما يقوم القادة الامريكيون وصناع القرار بارتكابه من انتهاكات وجرائم يجبّ كل ما عداه وينتج الولايات المتحدة التي يقودها ترامب اليوم، بكل من يحيطون به ممن يستغلون وجوده في الحكم، والذي يجعل من أي حديث عن حقوق الانسان، حقا، مهزلة العصر.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP