قبل 6 سنە
د. هشام أحمد فرارجة
563 قراءة

سقوط القناع الاخيرْ قانون القومية اليهودية وصفقة القرن

ما الذي تبقى لاسرائيل لكي تفعله حتى تكشف القناع الزائف عن وجهها الحقيقي أمام العالم؟ فهي لا تفتقر الى كافة أنواع الممارسات العنصرية والتمييزية ضد كل من لا يهللون ويزغردون لاحتلالها، حتى ولو كانوا يهودا. ودون الانخراط في تفاصيل الحياة اللحظية واليومية التي تتفنن في تعقيدها، بل وتدميرها مختلف المؤسسات الاسرائيلية لتكريس استهداف الآخر على كافة الصعد، فان مجرد قيام اسرائيل على مبدأ احتلال أرض الغير وتشريدهم والبطش بمن تبقوا، بحد ذاته يزعزع أسس ومتطلبات قيام الدول، بمفهومها الحديث.

فامتدادا من معاهدة وستفاليا عام 1648 التي تم التوصل اليها لارساء قواعد الامن والاستقرار في أوروبا بعد ثلاثة عقود من الحروب الطاحنة، ومرورا بمبادئ الرئيس الامريكي، ويدرو ويلسون الاربعة عشر التي اعتمدها آلية قانونية لدخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الاولى، وانتهاءاً باقرار هيئة الامم المتحدة في ميثاقها لحق تقرير المصير للشعوب كأساس يكفل الاستقرار العالمي، فان فكرة الاستيلاء على أرض الغير وانتهاك حقوقه، لا سيما حقه في تقرير المصير، يخلخل أحد أهم الاركان التي تقوم عليها الدولة الحديثة، والقاضي بضرورة تمثيل حكومة الدولة لجميع مواطنيها. وفي حال قيام دولة ما باستثناء مكون رئيسي وهام من مواطنيها من حقوقه، لأية اعتبارات تمييزية كانت، فان الدولة تصبح بحكم القانون الدولي فاقدة لاهليتها للاعتراف بها كدولة مُمثِّلة لجميع مواطنيها، الامر الذي يجعلها دولة مارقة.
  ورغم أن كل ما كانت، ولا زالت تقوم به اسرائيل من ممارسات ينسجم مع حرفية وروح قانون القومية اليهودية الجديد الذي أقرته الكنيست في التاسع عشر من شهر تموز من هذا العام، سواء ضد من يعيش من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو ممن يحملون الجنسية الاسرائيلية في الاراضي التي احتلت عام 1948، أو ضد الفلسطينيين المقيمين في القدس، اّلا أن الاقدام على شرعنة كل ممارسات التمييز والطمس من خلال قانون أساسي يرقى الى كونه وثيقة دستورية، يعتبر خرقا صارخا لمبدأ تقرير المصير، كأحد أهم مبادئ القانون الدولي المعاصر، وسابقة خطيرة لا مثيل لها في دستور أية دولة كانت.
  فهذا القانون الغير قانوني يشرّع تطبيق حق تقرير المصير لليهود فقط، كونه يحدّد الركيزة القومية التي تقوم عليها الدولة على أساس ديني محض. ورغم وضوح وصراحة هذا الاعلان المتضمن في هذا القانون، اّلا أن ترجمته على أرض الواقع تعني بالضرورة اقتلاع كل من هم ليسوا يهودا على أراضي هذه الدولة المدّعاة، وتجريدهم من كافة حقوقهم، وخاصة حقهم في تقرير مصيرهم عن طريق اختيار ممثليهم بالانتخاب والترشح، وأيضا سحب الحصانة عن كل ممثل لجميع أولئك الذين ليسوا يهودا. ولذلك، فان أهم دلالة تترتب على تمرير هذا القانون تتمثل في تعريض حياة وجود كل فلسطيني يحمل الجنسية الاسرائيلية وبطاقة الاقامة في القدس لخطر التهجير، حيث هذا القانون يخلو كلية من أية اشارة ضمنية أو مباشرة، لضرورة حماية الحقوق الفردية والجماعية للآخرين، أي الفلسطينيين، الذين أوصلتهم آلة الاحتلال الى حد أن يصبحوا أقلية في بلادهم. وخطر التهجير الذي يتهدد هؤلاء الفلسطينيين الذين تزيد نسبتهم عن 20% من سكان اسرائيل حقيقي، بالفعل، اذ تداول امكانية تنفيذه مسؤولون اسرائيليون علنا على أعلى المستويات. وما دام المشرعون الاسرائيليون قد قرّروا أن يتنازلوا عن قيمة الديمقراطية التي طالما تغنت بها اسرائيل بشكل مخادع كواحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط، فان امكانية تنازلهم عن كل الجوانب الاخلاقية والقانونية المتعلقة بعملية تهجير محتملة تحت طائلة حرب أقليمية كبرى منتظرة أكبر وأسهل من مجرد تمرير مثل هذا القانون. فالمشرعون الاسرائيليون أخذوا على عاتقهم أن ينتهكوا حقوق المواطنة والجنسية لكل من هو ليس يهوديا بحصر الشخصية القومية للدولة باليهودية.
  ان اشكالية تحديد القومية على أسس دينية تنبع من مجموعة المخاطر الكامنة في مثل هذا التعريف. فاليهودية ديانة تتقاطع مع مختلف القوميات والجنسيات في كافة أرجاء العالم. ومحاولة تلفيق قومية على هذا الاساس الديني المحض يشكل انعكاسا لفكرة عنصرية ضيقة لا يمكن أن تؤتي اّلا حروبا دموية وصراعات طاحنة. فكيف يمكن لشكل العالم، وخاصة لمنطقة الشرق الاوسط المحتقنة أصلا، لو كانت هناك دولة قومية مسيحية، واخرى اسلامية، وثالثة درزية، وهكذا دواليك. ألا يكفي المنطقة مذهبة الصراعات وضخ تعبئة طائفية مسمومة؟! فمزيد من ذلك كفيل بأن يعيد المنطقة والعالم الى حقبة القرون الوسطى، حيث الظلامية والتعصب واقصاء الآخر، لا لشيء اّلا بسبب معتقده الديني.
  هذه هي السابقة الخطيرة التي يؤصّل لها قانون القومية اليهودية الجديد في اسرائيل، علما بأن مسألة حوصلة القومية حول الدين كانت محطّ انتقاد سياسيين ومفكرين يهود كثر عبر العقود. فقبيل اعلان وعد بلفور بشهرين تقريبا عام 1917، قام العضو اليهودي الوحيد في مجلس الوزراء البريطاني آنذاك، أِدوين مونتاغو بمعارضة اصدار تلك الوثيقة لاسباب متعددة، وخاصة بسبب انتهاكها لمفهوم القومية المعمول به عالميا، وربطه حصريّا بالديانة اليهودية. وفي العقد الاخير، قام المؤرخ الاسرائيلي، شلومو ساند، في كتابه “اختراع الشعب اليهودي” الذي نشر بالانجليزية عام 2009 بضحض فرضية كون اليهودية قومية، أو اعتبار اليهود شعبا.
  لكن اقدام اسرائيل على سن هذا القانون في هذه المرحلة تحديدا لا ينطلق من حدوث متغيرات مفاهيمية أهّلت لتمريره، وانما من اعتبارات سياسية دولية مكّنت رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو وتجمعه الليكودي المتطرف من اتّخاذ مثل هذه الخطوة. فوجود الرئيس الامريكي، دونالد ترامب في البيت الابيض، لا شك منحه الحصانة والحماية والدعم والغطاء. ففي الوقت الذي لم يوافق الرئيس الامريكي السابق، باراك أوباما على تشريع قانون من هذا النوع، كما بيّنت بعض التقارير، سارع ترامب لاطلاق العنان للحكومة الاسرائيلية لكي تفعل ما تشاء دونما رقيب أو حسيب أو رادع.
  وتمهيدا لبلورة صفقة القرن، يذكر أن ترامب كان قد أعلن بعد أقل من شهر من تسلمه الرئاسة، في منتصف شهر شباط من عام 2017، أثناء زيارة نتنياهو لواشنطن، عن سحب ادارته لالتزام الولايات المتحدة بحل الدولتين، وعن توجهه نحو حل الدولة الواحدة وفقا للرؤيا الاسرائيلية، وتحديدا بشكل ينسجم مع طروحات نتنياهو. فأولا، كان تنصل ترامب من فكرة حل الدولتين التي احتضرت أصلا منذ زمن بعيد، ومن ثم تبنيه لفكرة اقامة دولة واحدة يهودية في أرض فلسطين التاريخية، تمشيا مع المخطط الليكودي. وثانيا، أتبع ذلك التنصل بضرب كافة القوانين الدولية المتعلقة بعرض الحائط من خلال اعلانه القدس عاصمة موحدة لاسرائيل، وتكريس ذلك الاعلان ببدء نقل السفارة الامريكية من تل أبيب اليها. وثالثا، ويبدو تعبيرا صارخا عن المخطط لتنفيذ صفقة القرن، أيّا كانت المعارضة الفلسطينية وغيرها، تم الالتفاف على الشرط الاسرائيلي بالاعتراف الفلسطيني الرسمي بيهودية الدولة والذي كان نتنياهو يضعه كعقبة في طريق أي مطلب فلسطيني من خلال قيام الكنيست بسن قانون أساسي يستوفي هذا المطلب، رغم الرفض الفلسطيني. ولا شك أن الدارس للعلاقات الامريكية-الاسرائيلية يدرك أن نتنياهو لا يمكن أن يقدم على خطوة من هذا القبيل دون أخذ موافقة مسبقة من الادارة الامريكية. وكما هو معروف، فان تصدر عدة شخصيات لزمام المبادرة في ادارة ترامب، دعما للمصلحة الاسرائيلية، كجاريد كوشنر وجاسن غرينبلات ودافيد فريدمان يجعل من مسألة موافقة الادارة الامريكية على قانون القومية اليهودية أمرا في غاية السهولة. فالسفير الامريكي، فريدمان كان قد دافع علنا عن قيام اسرائيل ببناء مشاريعها الاستيطانية على الارض الفلسطينية، باعتبارها أرضا اسرائيلية، حسب ادعائه. وكوشنر نفسه يعتبر من الممولين المميزين لبناء المستوطنات.
  ولذلك، فان قيام الكنيست باقرار هذا القانون يمثل تسلسلا طبيعيا لمجريات التطورات والاحداث منذ تسلّم ترامب الرئاسة. هذا لا يعني بأي حال من الاحوال أن الولايات المتحدة قبل ترامب كانت مناوئة للاملاءات الاسرائيلية، وانما يؤشّر على قيام ادارة ترامب باطلاق العنان بالكامل لحكومة نتنياهو، لكي تصول وتجول، دونما قلق على أية عراقيل سياسية أو دبلوماسية، خاصة في مجلس الامن.
  السؤال المهم الذي يجدر طرحه هنا هو، ما الذي يمكن أن يترتب من نتائج وأبعاد على اصدار قانون من هذا النوع؟ بالطبع، ليست القوانين الاسرائيلية مجرد حبر على ورق. انّها عادة تعكس مخططات استراتيجية معدة سلفا، وفي ذات الوقت تؤسس لمجموعة من الخطوات اللاحقة. فقانون القومية ليس وليد اللحظة، ولا الصدفة، حيث الجدل تفاعل بشأنه في مراحل عدة منذ اصدار الكنيست لما يعرف بقانون العودة عام 1952. ولولم يكن القادة الاسرائيليون يرغبون في رسم صورة مشرقة لاسرائيل وتصديرها على اعتبار أنها تتشدق بالديمقراطية، لكان في الغالب قد مرّر هذا القانون من قبل. ولكن صلف نتنياهو وعنجهيته، وعجرفته، ورغبته في تصوير نفسه كأكثر المتشددين تطرفا بهدف الهروب من الملاحقات القانونية له على اختلاساته وفساد حكمه، دفع به لكي يتنازل عن الديمقراطية كقيمة اعلامية وللعلاقات العامة في العالم، ويحصر هوية اسرائيل في كونها يهودية فقط.
  وما دام هذا القانون يعكس نمطا فكريا يمينيا، متطرفا، ومتشنجا في السياسة الاسرائيلية، فانه بالضرورة سوف يترجم الى خطوات عملية على الارض، لن يكون أي منها في صالح الفلسطينيين. وما دام الاستيطان يعتبر قيمة وأولوية وطنية، حسبما جاء في هذا القانون، فان أهم تبعات هذا القانون سوف تتجلى في تكثيف مسعور لمصادرة الارض الفلسطينية واقامة المزيد من مشاريع الاستيطان في كافة أنحاء فلسطين. ولان اليهود، فقط، هم الذين يقرّرون مصير الدولة، ولان هذه البلاد هي بلادهم، كما أعلن نتنياهو من على منصة الكنيست، متغطرسا، مباشرة بعد اقرار قانون القومية، ولان اللغة العربية ليست لغة رسمية، كما كانت تعتبر من قبل، فان اسرائيل سوف تسعى جاهدة، وبشكل منظّم ومخطط لتفريغ الارض الفلسطينية، خاصة في المناطق المحتلة عام 1948 والقدس، من سكانها الفلسطينيين. وكعادتها، فان الحكومة الاسرائيلية سوف تبتدع مختلف الاساليب لتحويل حياة الفلسطينيين جحيما بشكل لحظي ويومي في كافة المجالات، ولتعمق حالة اليأس والاحباط في صفوفهم، ولكي تحول بينهم وبين امكانية العيش المشترك والمساواة في الحقوق. فقانون القومية لا يمت لمبدأ المساواة بصلة، لا من قريب، ولا من بعيد. وهو يجهز على مبدأ الديمقراطية، كأسلوب عمل لاحقاق الحقوق وتنظيم العلاقات والواجبات، بالكامل. فلا طريق ولا أمل أمام الفلسطينيين لنيل حقوقهم التي كانت تعتبر ثانوية ومهدورة، أصلا، قبل اقرار هذا القانون. ولكن ما يميز اليوم والغد عن الامس بالنسبة لهؤلاء الفلسطينيين هو أن البنية السياسية الاسرائيلية سوف تكون أكثر جرأة لوضع مخططات التفريغ والتهجير موضع التنفيذ، غير آبهة بأية انتقادات دولية أو فلسطينية عابرة، هنا وهناك، ومستخدمة سوابق حديثة للتهجير السكاني القصري في المنطقة، كوسيلة للتبرير الاعلامي.
  ويمكن أن يكون أخطر ما قد يترتب على هذا القانون هو استغلال اسرائيل لحرب اقليمية، حقيقية أو مفتعلة، لتنفيذ مشاريع التفريغ والتهجير الجماعي القصري. ومن يعتقد أن هذا شطح في الخيال أو تهويل لصورة الواقع الممكن، فليفكر بسيناريو يتمثل في قيام اسرائيل بتركيب وضع مفاده استهداف بلدات يقطنها فلسطينيون بوابل من الصواريخ والقذائف، والادعاء بأن مصدرها هو من قوى اخرى مشاركة في تلك الحرب الاقليمية المحتملة. وفي حال حدوث ذلك، يمكن أن تقدم اسرائيل على تفريغ وتهجير أعداد هائلة من السكان الفلسطينيين بحجة حمايتهم، ولكن بحيث تصبح عملية التفريغ والتهجير دائمة، باستخدام ذرائع أمنية وعسكرية. فكما يذكر، لقد اضطر بعض السكان الفلسطينيين لمغادرة منازلهم في بعض المدن الساحلية، كحيفا، أثناء حرب عام 2006 بين اسرائيل وحزب الله، بحثا عن الامان الشخصي لانفسهم ولاسرهم. واسرائيل ليست بغافلة عن الضرورات التي تمليها الحروب على المدنيين الذين يقعون عادة في مرمى النيران.
  وبالاضافة الى ذلك، فان قانون القومية الآن سوف يحفز الحكومة الاسرائيلية لاتخاذ مجموعة من الاجراءات والتدابير التي ستنقض من خلالها على المقدسات الاسلامية والمسيحية، خاصة في مدينة القدس، بشكل جنوني لم يشهد له مثيل من قبل. فبالنسبة لهم، فان التاريخ هو تاريخهم، والبلاد بلادهم والمقدسات مقدساتهم. وما كان يعتبر من المحظورات من قبل أصبح القاعدة، لا الاستثناء اليوم، ولا سيما اقتحام المسجد الاقصى من قبل آلاف المستوطنين تحت حماية حراب الجيش الاسرائيلي. فاذا ما كانت اسرائيل تسير بخطى متأنية سابقا لتنفيذ مخططاتها تجاه المقدسيين والاماكن المقدسة، فانها ترى في وجود ترامب وادارته الداعمة بشكل غير محدود فرصتها الذهبية لانجاز أكبر قدر مما يمكن انجازه من مشاريعها الاستعمارية.
  ملخص الامر لا يكمن في أن فلسطينيي أراضي 1948 والقدس سوف يعاملون كمواطنين ومقيمين من الدرجة الثانية أو الثالثة، كما كان عليه الحال من قبل، وانما كغرباء أجانب غير مرغوب بهم على الارض التي تعتبرها اسرائيل يهودية صرفة الآن، بحكم قانون قومية الدولة. واذا ما كان الحال هكذا بالنسبة للفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية وهوية القدس المهددة الآن، فالوضع بالنسبة للفلسطينيين الذين يسكنون في الضفة الغربية وقطاع غزة حدّث ولا حرج. فظواهر المداهمات الليلية، والاعتقالات المتكررة، ومشاريع تحويل حياة كل فلسطيني جحيما، سواء أثناء التنقل أو محاولة العيش بشكل كريم سوف تتصاعد بشكل لم يسبق له مثيلا، لان أرض كل فلسطين هي أرض يهودية، والقومية اليهودية هي الوحيدة المشروعة، لا ثنائية القومية، حيث كل الآخرين هم مهاجرون غير شرعيين، حسبما يعتقد نتنياهو وتجمعه، ووفقا للمصطلح الدارج بالنسبة لترامب بخصوص كل من لا ينحون نحوه.
  فبطش الاحتلال الاسرائيلي سوف يطال حياة كل فلسطيني، كائنا من كان، لان الكل الفلسطيني هو معتدٍ على أرض اليهود الذين لا ينحدرون من أصول عربية أو ينطقون باللغة العربية. ليس مهما بالنسبة لنتنياهو وتجمعه كيف يشعر العالم جراء هذا القانون، خاصة ما دام ينال حماية ترامب ويستظل بمظلته.
  ما الذي يمكن عمله ازاء اقرار هذا القانون؟ لقد اعتادت اسرائيل على عبارات الادانة والشجب والاستنكار لسياساستها وممارساتها. بل وقد تكون اسرائيل قد أعدّت نفسها اعلاميا ودبلوماسيا للتعامل مع ما قد يصدر من ردات فعل دولية مستنكرة لاصدار هذا القانون. واسرائيل تعرف أن ردات الفعل القائمة على الادانة ومثيلاتها لن تغيّر من الوضع شيئا. ولذلك، فانها سوف تبقى ماضية في ترجمة هذا القانون لخطوات عملية تفصيلية بشكل مثابر ومتسارع.
  وفلسطينيا، يبدو وكأنه تم الاعتياد على اطلاق ردات الفعل على ما تقوم بعمله اسرائيل، حيث تذوي كل ردة فعل على حدث ما، لتتبع بردة فعل اخرى على ما يلحق به من تطورات. وعليه، فان الاستمرار في التعامل مع هذا القانون من منطلق ردات الفعل سوف يشكّل حافزا لاسرائيل لاتباعه بما يفرزه من نتائج عملية.
  وما دامت عملية التخطيط الاستراتيجي التي تستبق الاحداث بهدف التعامل معها بتأثير وفاعلية ليست هي منهجية العمل، فانه ينبغي الاستعداد لمفاجآت اسرائيلية اخرى، تطال الارض الفلسطينية والانسان الفلسطيني. وريثما يبدأ العمل الفلسطيني ينطلق من الفعل، لا ردة الفعل، سوف يبقى الشعب الفلسطيني هو المتلقي، واسرائيل هي المرسل المتحكم بحدة التطورات، الى حد كبير.
  اسرائيل تعرف أن عبارات الادانة والشجب والاستنكار لا تعدو كونها عبارات انشائية لا تغني ولا تسمن من جوع. وهي تعرف أن حالة الاحتضار التي تحيط بها، اقليميا، لا يمكن أن تثنيها عمّا تخزّنه في أدراجها من مخططات. فما كان لترامب أن يعلن عن القدس عاصمة موحدة لاسرائيل وعن نقل السفارة الامريكية من تل أبيب اليها، وما كان للكنيست الاسرائيلي أن يقر قبل فترة بسيطة احتجاز عائدات الضرائب الفلسطينية التي تدفع لاسر الشهداء والجرحى والمعتقلين، وما كان للكنيست أن يقرّ قانون قومية الدولة اليهودية، لو كانت هناك أدنى الحسابات لقدرة فلسطينية على ايقاف هذه المخططات أو منعها.
  جدير بالتذكير هنا أن قبول اسرائيل كعضو في الامم المتحدة جاء في سياق متعلق بفكرة تقسيم فلسطين الى دولتين بناء على قرار التقسيم 181 لعام 1947، ووفقا لما جاء في وثيقة اعلان “استقلال” اسرائيل الذي ضمن حقوق المواطنة، ليس على أساس ديني. وجدير بالتذكير أيضا أن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية باسرائيل، بناء على ما جاء في اتفاقيات أوسلو لعام 1993 لم يندرج في سياق يهودية الدولة الاقصائي للشعب الفلسطيني. ومن الضرورة بمكان التنويه الى أن الاعتراف الدولي، جمعيا وفرديا لكل دولة على حدى، ارتبط بكينونة اسرائيل القائمة قبل اقرار قانون القومية اليهودية.
  وعليه، فما هي الآليات الفعلية التي يمكن اللجوء اليها بهدف جعل الاسرائيليين يعيدون حساباتهم؟ واضح أنه أمام الدبلوماسية الفلسطينية حقل كبير من النشاطات والتحركات التي تتعدى مجرد اطلاق المواقف السياسية واصدار عبارات الرفض والتعبير عن الغضب. لم يعد مجرد التنفيذ قادرا على التعامل مع تحديات مصيرية ووجودية من هذا القبيل. فحتى مشروع ثيودور هيرتسل من خلال كتابه “الدولة اليهودية” الذي نشر عام 1895، والذي شكّل الركيزة الحقيقية لعقد المؤتمر الصهيوني الاول في مدينة بال بسويسرا عام 1897، لم ينطوِ على ذات المخاطر لوجود الشعب الفلسطيني، رغم عمله الدؤوب لقلب الحقائق وتزويرها. وقانون القومية هذا هو أخطر بكثير من وثيقة وعد بلفور التي أسست لصراع دموي دام أكثر من مائة عام بعد اصدارها، حيث وعد بلفور ينص على “اقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، تاركا الحيز الجغرافي الذي يقام فيه هذا الوطن القومي فضفاضا ومتّسما بالمرونة في التفسير بشكل مقصود. بينما قانون القومية اليهودية ينأى بنفسه عن أية محددات جغرافية لاسرائيل، جاعلا بذلك كل فلسطين التاريخية وطنا لهذه القومية. فاذا ما كان وعد بلفور قد تسبب في اراقة الدماء واخضاع الشعب الفلسطيني لمسلسل طويل من المجازر وحملات الاقتلاع، فان قانون القومية سوف يستخدم لاسدال الستار على القضية الفلسطينية الى الابد، اّلا اذا ما شعرت اسرائيل أن مصلحة مواطنيها اليهود تكمن في شطب هذا القانون باصدار قانون جديد يجبّ ما قبله.
  واقع الحال يبيّن تلبّد الغيوم في الاجواء بشكل لم تعهده المنطقة في أية مرحلة سبقت. وهذا هو الوقت الذي تتطلب فيه عملية رسم السياسات فائق الحكمة وعميق الابداع في تحديد الخطوات. ان مصلحة الانسانية برمتها تملي على كل من يعنيهم الامر أن يرتقوا الى مستوى الحدث، حيث القيم الانسانية في أرض الديانات والرسالات معرضة للاجتثاث. واّلا، فان المحتم سوف يكون الاضطرار لاحقا للبكاء على الاطلال وندب الحظ، ومحاولة قمع الشعور بالذنب.
  انّ مجابهة الحاضر، بكل ما فيه من تحديات وعقبات أفضل من ترحيلها للمستقبل، على قاعدة لعلّ وعسى تغير الايام ما تحمله في طياتها.
صحيح أن الشعب الفلسطيني يتحلى بتفوق ارادي على خصمه الاسرائيلي، رغم امتلاك اسرائيل لكافة أشكال القوة والسيطرة. ولكن في ذات الوقت، ان جانبا آخر من التفاعل يتمثل في الصراع الحقيقي بين من يخطّط ليل نهار، ومن ثم يبادر بالافعال، من ناحية، وبين من يرتجل ويعتاش على ردات الفعل، ظرفيا، كلما تطلب الامر.
  انّ اعتماد عملية التخطيط الاستراتيجي يكفل احداث تغييرات جذرية تعود بالنفع على كل من هم على صلة بهذا الامر.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP