الحزب الجمهوري الأميركي نحو "ما بعد إسرائيل"؟!
في سياق تحوّلات السياسة والرأي العام الأميركي، شهدت صفوف اليمين الأميركي مؤخرًا حربًا أهلية حول الموقف من "إسرائيل" وملفات جيفري إبستين، وكيف سيبدو شكل الحزب الجمهوري وسياساته مستقبلاً تجاه "إسرائيل" والشرق الأوسط في مرحلة "ما بعد إسرائيل"، أي ما بعد انحسار التعلق العاطفي غير المبرر بـ"إسرائيل" والتأييد العبثي المطلق للكيان.
حرب أهلية يمينية حول "إسرائيل"
في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كيفن روبرتس، رئيس مؤسسة التراث بواشنطن، أحد أهم مراكز الأبحاث والتفكير المحافظة، وحظيت بأهمية كبيرة في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، تصدّر عناوين الصحافة، وأثار ردود فعل غاضبة، بعد إعلانه أن المؤسسة لن تتخلى عن المحلل السياسي اليميني الشهير بانتقاده لـ"إسرائيل"، تاكر كارلسون.
جاء تصريح روبرتس ردًا على منتقدين في تيار اليمين هاجموا كارلسون بعد إجرائه مقابلة بودكاست مع الناشط في القومية البيضاء والمعادي لليهود و"إسرائيل"، نِك فوينتس. برر روبرتس لاحقًا إنه (كارلسون) "لم يكن يعرف الكثير عن فوينتس"، وأن نص الفيديو الخاص به كتبه مساعدٌ استقال لاحقًا، لكن هذا لم يُخمِد الجدل الدائر حول الموضوع وتداعياته، وكيف يتطور هذا الجدل حول "إسرائيل" في أوساط اليمين.
حول هذه المعركة، قدم أندرو داي، محرر مجلة التيار المحافظ الرئيسي، American Conservative، بعض الخلفيات الهامة. يقول داي إنّ تاكر كارلسون ونِك فوينتس كانا عادة على خلافٍ حاد، وتلفظا بألفاظٍ جارحةٍ عن بعضهما في برامجهما، لكن كارلسون رأى التواصل مع فوينتس، واستضافته في البرنامج أمرًا مناسبًا. ورأى كثيرون هذا: "أمرًا لا مفر منه".
يتمتع نك فوينتس بشعبيةٍ كبيرةٍ بين الشباب المحافظين بل وفي أميركا والعالم. ولديه ملايين المشاهدين والمتابعين، لذلك وصل كارلسون إلى مرحلة رأى فيها أنه يستحق الاستضافة.
انتُقِد كارلسون لإجرائه مقابلةً وديةً، لكن قراءة أندرو داي للأمر مختلفة قليلاً: فكارلسون كان يُجري المقابلة بروح ونبرة أبوية. كان يُعارض معاداة فوينتس للسامية، مُحاولاً التمييز بين انتقاد "إسرائيل" وانتقاد اليهود عموماً. مع ذلك، تعرّض كارلسون لانتقادات كثيرة بسبب المقابلة التي بدت دافئة.
بعد أسبوع تقريباً، أصدر رئيس مؤسسة التراث، كيفن روبرتس، بياناً مُصوّراً (فيديو) دافع فيه عن تاكر كارلسون، وقال إنه لن يُشارك في "إلغاء" تاكر كارلسون. وقال إن كارلسون صديق لمؤسسة التراث، ولن يتخلوا عن صديقهم. وقال إنه لا يرى وجوب إلغاء مقابلة فوينتس، لكنه أوضح أنه يمقت آراء فوينتس المعادية للسامية.
استاء كثيرون، خارج مؤسسة التراث وداخلها. فأصدر روبرتس بيانين تراجع فيهما عن تصريحاته. وعقد اجتماعًا في مؤسسة التراث، قال فيه إن إصدار بيان مُصوّر كان خطأً.
لم يكن هذا كافيًا للناس. فاستقال بسبب الأزمة: روبرت جورج، الباحث البارز، وعضو مجلس إدارة مؤسسة التراث. وكان آخر المستقيلين، ومبرره أنه رغم إبداء روبرتس الأسف بشأن البيان المُصَوّر، إلا أنه لم يتراجع عن محتواه بقدرٍ يراه جورج ضروريًا.
هذه القضية المستمرة، سرّعت بالفعل وتيرة الحرب الأهلية في صفوف اليمين، وتدور بشكل كبير حول الموقف من "إسرائيل". وفي الدوافع والخلفيات، يتمحور جزءٌ كبيرٌ من الجدل حول العلاقة بـ"إسرائيل"، إذ انتقد كارلسون مرارًا الدعم الأميركي لها.
انقسام بين أجيال المحافظين
وعن أطراف هذه الحرب الأهلية، يقول أندرو داي يمكن القول إن هناك انقسامًا جيليًا في اليمين الأميركي بشأن "إسرائيل". سبق هذا الانقسام حدث 7 تشرين الأول 2023 بسنوات. إذ أصبح الأميركيون الشباب أكثر تشككًا في صواب ومبررات الدعم الأميركي لـ"إسرائيل"، وأكثر انفتاحًا على وجهة نظر الفلسطينيين. كان الانقسام أوضح في اليسار لكنه تطور أيضًا في اليمين الأميركي.
في السنوات الأخيرة، أظهرت استطلاعات الرأي العام تراجعًا في دعم "إسرائيل" حتى بين الإيفانجيليين، وهم تاريخيًا الجماعة الدينية الأكثر دعمًا لـ"إسرائيل"، بجانب يهود أميركا.
يقول داي: في الواقع، كان هناك الكثير من التعاطف تجاه "إسرائيل" بعد 7 تشرين الأول مباشرةً، لكن طريقة رد "إسرائيل" عليها وصور الدمار المُرَوّعة في غزة ومقتل الأطفال، جعلت الأميركيين والغرب عمومًا ينفرون منها. والاستطلاعات واضحة جدًا.
حاليًا، لدى نصف الجمهوريين – دون الخمسين عامًا – نظرة سلبية تجاه "إسرائيل". هذا أمر خطير للغاية على لوبي "إسرائيل"، وهو تحالف فضفاض – من منظمات وأفراد – يروج للدعم الأميركي لـ"إسرائيل" ولسياسة خارجية أميركية منحازة لها.
يفاقم هذه الخطورة على لوبي "إسرائيل" أنها خسرت اليسار بالفعل. فقد راهن بنيامين نتنياهو مبكرًا على الجمهوريين. والآن يبدو أنه يخسرهم، باستثناء جيل المواليد بين عامي 1945 و1965. وهذا أمرٌ خطيرٌ للغاية لأنصار "إسرائيل". وازدادت حدة النقاش حول "إسرائيل" بين الجمهوريين، بينما لا يريد اللوبي الإسرائيلي خسارتهم.
هذا هو السياق الأوسع لهذه الحرب الأهلية بين صفوف وأجيال اليمين الأميركي. يُعد هذا التحول أمرًا لا يمكن تجاهله أو التنبؤ تمامًا بمدى تداعياته المستقبلية.
جعل مبدأ "أميركا أولاً" هذه المعركة حتمية. فبدأ الشباب المحافظون يتساءلون: لماذا تُستثنى "إسرائيل" من مبدأ "أميركا أولاً"؟ لماذا نُقدّم دعمًا سخيًا غير مشروط لـ"إسرائيل"، حتى عندما يكون غالبًا ضد مصالحنا أو يُعطّل دبلوماسيتنا مع إيران، مثلاً؟
أبرز شخصيات هذا الاتجاه تاكر كارلسون، وستيف بانون، ومجلة The American Conservative. وبين أنصار "إسرائيل"، أصوات مثل مارك ليفين (فوكس نيوز)، وبن شابيرو (ديلي واير)، والصهيونية المسيحية. فليس يهود أميركا وحدهم من يدعم "إسرائيل"، بل أشخاص كالسيناتور تيد كروز (تكساس)، ويُعدُّ نفسه، كجمهوري مُتزمّت داعم لـ"إسرائيل"، لخوض انتخابات 2028 الرئاسية نقيضًا لتاكر كارلسون. وسفير أميركا لدى "إسرائيل"، مايك هكابي، الواعظ الإيفانجيلي، جزء من لوبي "إسرائيل". ويتصرف غالبًا كسفير "إسرائيل" لدى الغرب وأميركا أكثر من كونه سفير أميركا لدى "إسرائيل"!
ملفات إبستين و"إسرائيل"
تصدرت ملفات الملياردير جيفري إبستين وفضائحه وعلاقة ترامب به عناوين الأخبار. يُبدي مُقدّمو البرامج المحافظون الذين ينتقدون الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" قلقًا بالغًا بشأن المسألة. فهل هناك ارتباط بين الأمرين في أوساط اليمين؟
يبدو الأمران مُرتبطين في نقاش وخطاب المحافظين، لأن كثيرًا من اليمين واليسار يعتقدون أن إبستين كان عميلًا استخباراتيًا لـ"إسرائيل" و"الموساد".
فقد كان لإبستين علاقات وثيقة بمسؤولين إسرائيليين، وعلاقات برؤساء دول وشخصيات سياسية نافذة في أنحاء العالم، لكن علاقته بأشخاص مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، أقوى وأهم وأوضح من علاقاته الأخرى.
وكعميل للموساد، كان إبستين يُسيء لشخصيات أميركية لصالح "إسرائيل"، مثل جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، وستيف والت، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد، بعد نشر مقالهما الشهير: "لوبي إسرائيل والسياسة الخارجية الأميركية"، كما تشير رسائل إلكترونية بين إبستين وألان ديرشويتز، أحد غلاة الصهاينة، في نيسان 2006، سعيا لتشويه سمعة ميرشايمر ووالت، وصوّرهما ديرشويتز زورًا معادين للسامية.
كان إبستين مُتلاعبًا بارعًا، يُبالغ باستمرار في درجة صلته وتأثيره عند التحدث عبر رسائل البريد الإلكتروني. والواضح أن ترامب وجد في قضية ملفات إبستين شوكة في خاصرته. فقد ترشح ضد الفساد، كشخص سيُواجه المؤسسة الحاكمة ويُجفف المستنقع. وفضيحة إبستين وصداقته معه تُعقّد الأمور عليه وعلى حركة "أميركا عظيمة مجددًا" MAGA التي يتزعمها، وتُقوض شرعيته لديها.
ليست مصادفة أن ترامب هاجم النائبين الجمهوريين، توماس ماسي ومارجوري تايلور غرين، الصريحين بشأن إبستين و"إسرائيل"، ولهما شعبية بين جمهور حركة "أميركا عظيمة مجددًا"، ويطالبان بنشر ملفات إبستين، وأثارا عداء اللوبي الإسرائيلي.
سيواجه النائب توماس ماسي حملة إعادة انتخاب صعبة في 2026، لأن المانحين المؤيدين لـ"إسرائيل"، مثل بول سينغر وميريام أديلسون، يُمولون خصومه في كنتاكي. كما يؤدي انتقاد ترامب للنائبة غرين بشدة إلى إضعاف شعبية الجمهوريين، وهذا سبب استخدامه الفجّ لسلطته وقلق الجمهوريين من مواجهته.
تظهر الأدلة ترامب عالمًا بجرائم إبستين، ولا تشير رسائل إبستين بالبريد الإلكتروني إلى مدى تورطه فيها. يقول إبستين أشياءً مثل: "حسنًا، بالطبع كان ترامب على علم بالفتيات. لقد طلب من غيسلين ماكسويل أن تتوقف". لكن تستر إدارة ترامب ربما أخطر من نشر الملفات.
جيمس فانس و"ما بعد إسرائيل"
وكان أندرو داي كتب مقالًا عن نائب الرئيس، جيمس فانس، بعنوان "جيه. دي. فانس قادر على قيادة أميركا ما بعد إسرائيل"، متحدثًا عن احتمال فوز فانس بالرئاسة في انتخابات 2028، وعن إدارته للحزب الجمهوري "ما بعد إسرائيل".
فكيف سيبدو الحزب الجمهوري "ما بعد إسرائيل"؟
تلقّى الكاتب انتقادات وهجمات مُعلّقين مؤيدين لـ"إسرائيل" بسبب العنوان. كان الكاتب يتصوّر حزبًا جمهوريًا ليس معاديًا لـ"إسرائيل" أو مؤيدًا لها، لكن لم يعد "مهووسًا" بالعلاقة معها، ويستطيع تجاوز الحرب الأهلية الدائرة داخله حولها والتركيز على قضايا أخرى.
توقع الكاتب أن جو بايدن سيُنظر إليه كآخر رئيس ديمقراطي مؤيد (مطلق) لـ"إسرائيل"، واحتمالًا كبيرًا أن يُعتبر ترامب آخر رئيس جمهوري مؤيد (مطلق) لـ"إسرائيل"، كذلك. تظهر الاستطلاعات أن الشعب الأميركي لم يعد راغبًا بدعم هذه العلاقة الخاصة، فلم تعد تتمتع بمكانة كانت عليها سابقًا. لقد تضاءل التقارب كثيرًا خلال حرب غزة.
فما نوع التحول الذي قد يحدث؟
قد يحدث الكثير في العامين المقبلين. لا يقين قاطعًا بأن فانس سيكون مرشح الحزب الجمهوري، لكن يُرجح ذلك جدًا. إنه مرشح اليمين الأوفر حظًا، ويُفضّل الواقعية وضبط النفس بالسياسة الخارجية. فهذا التيار يميل لانتقاد "إسرائيل" لاعتقاده أنها تجرّ أميركا لحروب في الشرق الأوسط.
كذلك، لا يُعرف فانس بمعاداة "إسرائيل". في الماضي، زار أماكن مثل معهد كوينسي، الذي يُفضّل الواقعية وضبط النفس، ودافع عن علاقة أميركا بـ"إسرائيل"، وشكّل استثناءً في آرائه المؤيدة لضبط النفس إزاء "إسرائيل". أما الآن، فنرى بعض خطابه يتغير. مؤخرًا، في فعالية دعت إليها "نقطة تحول"، منظمة كان يرأسها تشارلي كيرك حتى اغتياله، وناب عنه فانس، وواجه أسئلة طلاب ينتقدون "إسرائيل".
لقد اتخذ فانس موقفًا أساسيًا: يجب أن نعامل "إسرائيل" كدولة أجنبية عادية. أحيانًا تتوافق مصالحنا مع "إسرائيل"، وعندها، يمكننا العمل معها. وأحيانًا لا تتوافق مصالحنا معها، وعندها لا يمكننا التعاون معها أو دعمها حقًا. يعتقد الكاتب أن هذا هو الموقف الذي يجب اتباعه، وعلى الجمهوريين الالتزام به بمصداقية للمضي قدمًا. فكما تُظهر فعاليات "نقطة تحول" بوضوح، سئم الشباب الأميركي الأمر، ويهتمون جدًا بالموضوع ولن يتجاهلوه.
عارض أنصار "إسرائيل" مقال داي بشدة، فأدرك أنهم يكرهون فانس تمامًا، ولا يريدونه مرشحًا رئاسيًا جمهوريًا قادمًا. ويُرجّح أن يؤيدوا تيد كروز بقوة، ولهذا السبب يتوجه الأخير مُتموضعًا باتجاه "إسرائيل" حاليًا.
يتوقع الكاتب هزيمة ساحقة للجمهوريين أمام الديمقراطيين إذا رشحوا تيد كروز للرئاسة؛ بينما فانس، بسبب صدقيته لدى اليمين، وجاذبيته بين الشباب، ومهارته السياسية والخطابية، يستطيع التموضع بطريقة توحد الحزب الجمهوري وتجذب المعتدلين والوسطيين، رغم صعوبة ذلك بسبب ارتباطه بإدارة ترامب.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً