الغرب وسوريا الجديدة وتحديات الانكشاف الاستراتيجي
سيكون الموقف الأميركي والغربي من سوريا الجديدة أشبه كثيراً بالموقف الأميركي والغربي تجاه ثورة الإنقاذ في السودان، والتي انتهت إلى انفصال الجنوب وتقطيع أوصال البلاد بحركات التمرّد.
انهار نظام بشار الأسد، وسيطرت فصائل المعارضة المسلحة السورية على معظم البلاد، وبدأت مرحلة سورية جديدة وتحوّلات غامضة ومآلات مجهولة تفوق أسئلتُها أجوبتَها.
عمّت البلاد أجواء فرح واحتفال وتفاؤل يشوبها كثير من القلق وضيق الآفاق وأحزان نكأتها مقابر جماعية وجثث ضحايا القتل العشوائي والتعذيب، وقصص مروّعة لناجين من زنازين الموت وسجون أشبه بمعتقلات محاكم التفتيش بأوروبا القرون الوسطى.
تمرّ سوريا الجديدة بأوضاع وتحديات عديدة غير مسبوقة، بعد انهيار النظام السابق، وانكشاف التدهور العميق الذي آلت إليه البلاد تحت حكمه، دولةً ومؤسسات وجيشاً واقتصاداً وخدمات وإدارة عامّة وبنية تحتية وحياة مدنية.
بيئة جيوسياسية خَطِرة
جاء انهيار النظام وانتصار المعارضة المسلحة في مرحلة استراتيجية بالغة السيولة والهشاشة وبيئة جيوسياسية خَطِرة وانعدام المناعة وانفلات العدوانية الصهيونية ضد فلسطين (غزة وضفة)، ثم لبنان منذ شهور وسوريا منذ سنوات.
ومع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان السورية منذ 1967، أخذت العدوانية الصهيونية طريقها إلى سوريا الجديدة أيضاً: احتلال مزيد من الأراضي السورية ومرتفعات وقمم جبل الشيخ الاستراتيجية المشرفة على فلسطين ولبنان وسوريا، وإلغاء "إسرائيل" لاتفاقية فصل القوات (1974) واحتلال المنطقة العازلة، وإخلاء البلدات والقرى شرقها من أهلها بالتهديد والقصف وتمدّد "جيش" الاحتلال إلى مناطق جديدة، ليصبح على بعد 25 كيلومتراً فقط من العاصمة.
يطرح كلّ ذلك أسئلة محورية حول مستقبل وركائز الأمن القومي السوري والوضع الجيوسياسي الناجم عن هشاشة الجغرافية السياسية، وافتقاد العمق الاستراتيجي مقابل العدوانية الصهيونية، واختلال توازن القوى الإقليمي المزمن لصالح الكيان الصهيوني وكيلاً عن الإمبريالية الغربية.
مؤخّراً، شنّ الكيان الصهيوني مئات الغارات الجوية وقصفاً صاروخياً وبحرياً كثيفاً دمّر ما تبقّى من ترسانة عسكرية سورية متهالكة، ومطارات عسكرية بطائراتها، وسفن وقواعد بحرية، ومعسكرات الجيش ومخازنه، ومراكز أبحاث، وكلّ ما يفيد الدولة وأمنها القومي.
يفاقم كلّ هذا الدعم الأميركي المطلق لعدوانية إسرائيلية شاملة، وبلسان مستشار الرئيس بايدن لشؤون الأمن القومي، جيك سوليفان: "لقد استشعرت إسرائيل تهديداً من سوريا، فتصرّفت بناء على ذلك". والتصرّف هنا يعني تدمير معظم إمكانيات الجيش السوري واحتلال مناطق سورية جديدة! وعقب وقوع ذلك، طالب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، القيادة السورية الجديدة بالتعايش السلمي والعلاقات الطيبة مع جميع جيران سوريا. وجميع الجيران معناها الكيان الصهيوني المحتل! ليقول قائد الإدارة السياسية الجديدة بعد أيام بأنّ: "سوريا منهكة ولا تشكّل خطراً على أحد من جيرانها".
قواعد اشتباك جديدة
تمثّل عملية تدمير الترسانة العسكرية السورية واحتلال أراضٍ سورية إضافية قواعد اشتباك جديدة، هي تحديث وتوسيع لقواعد الاشتباك السابقة بين النظام السابق و"دولة" الاحتلال الإسرائيلي: حرية إسرائيلية تامة في قصف وتدمير أي هدف في سوريا من دون ردّ؛ على مرأى ومسمع ولا مبالاة الحليف الروسي وبطاريات دفاعه الجوي في قواعده بسوريا؛ مع استمرار إعلان النظام عن احتفاظه بحقّ الردّ في الزمان والمكان المناسبين!
جوهر قواعد الاشتباك الإسرائيلية الجديدة عقيدة أو مبدأ: "منع التسلّح المطلق" السوري، مما يستدعي فوراً عقيدة أو مبدأ "الإنكار النووي"، ويعني إنكار ومنع أي دولة عربية أو إسلامية من تطوير برنامج تقني نووي، ولو كان سلمياً. أما احتلال المناطق الجديدة، فذلك لضمّها كما تمّ ضمّ مرتفعات الجولان المحتلة أو لاتخاذها رهينة لابتزاز الحكم الجديد ومقايضة عودة المناطق المحتلة الجديدة بالتنازل عن الجولان المحتل.
وفي ضوء تصريح سوليفان وصمت باقي الغرب الجماعي، فقد تمّ إقرار هذه المبدأ في الغرب بالإجماع، وسيكون أحد أهمّ محدّدات العلاقة بين الغرب وسوريا الجديدة.
وذلك بالإضافة إلى انتقاص سيادتها ووحدتها، ووضعها قيد الرقابة الصارمة الدائمة، وابتزازها في شؤون الأقليات واستدامة الجيب الكردي الانفصالي المرتبط وجودياً بالغرب و"إسرائيل" والقائم تحت احتلال القوات الأميركية، في شمال شرق البلاد، وهو منطقة ضرورية لاكتفاء البلاد من المياه والقمح والنفط والغاز.
الاستسلام الكامل
باختصار، ستكون الولايات المتحدة و"إسرائيل" والغرب الجماعي ألد أعداء سوريا الجديدة كما سوريا القديمة، والدولة السورية. وسيكون الضغط والابتزاز والتهديد والترهيب السمات الأساسية لعلاقتهم بها وتتسم مطالبهم بالوقاحة.
فيطلبون منها الانكشاف الاستراتيجي واستبعاد روسيا وإيران، مقابل بعض حاويات المساعدات الغذائية والطبية مع استمرار العقوبات التي تحول دون إعادة الإعمار وحتى دون إعادة تأهيل القطاع الصحي، مما يذكّر بالمثل الفارسي: يريدون مقايضة قطعة من الحلوى مقابل قطعة من الذهب!
ولن يقبلوا منها بأقلّ من الاستسلام الكامل والتطبيع مع "إسرائيل"، وعدم المطالبة بالأراضي السورية المحتلة، ونفض يديها من قضية فلسطين والعلاقة بالمقاومة.
سيكون الموقف الأميركي والغربي من سوريا الجديدة أشبه كثيراً بالموقف الأميركي والغربي تجاه ثورة الإنقاذ في السودان، والتي انتهت إلى انفصال الجنوب وتقطيع أوصال البلاد بحركات التمرّد، والعقوبات السياسية والاقتصادية والمالية الدائمة وإفلاس البلاد وانهيار الاقتصاد وسقوط نظام البشير، ودخول البلاد الحرب الأهلية والانحلال النهائي.
هذا يعكس رؤية الغرب الإمبريالي للعالم الإسلامي، خاصة بعد الاستقلال عن القوى الاستعمارية. فالسودان لا ينبغي أن يكون عربياً أو مسلماً، والعراق لا ينبغي أن يكون موحّدا، عرباً وكرداً وتركماناً أو سنة وشيعة... أما شعب فلسطين، فبحسب تعبير ونستون تشرشل: "وجود الكلب في المنزل لا يعطيه حقاً في المنزل". فهي ليست بلاد العروبة أو الإسلام بل هي مشروع استيطاني صهيوني توسّعي.
والآن سوريا! في فيديو انتشر مؤخراً، يتحدّث جنرال أميركي متقاعد (بزي مدني)، بأن سوريا "مركز ثقل" الحضارة الغربية! وأن جيوش العرب والمسلمين ستغزو أوروبا قريباً. ويستدل الجنرال على أقواله بما يُدرَّس في كلية الحرب الأميركية، ويقرع طبول الحرب ويشعل إوارها ونارها. بالنتيجة، وجود العروبة والإسلام في معظم الأقطار العربية لا يعتبر شرعياً أو أصيلاً، وينبغي ردّهم إلى الصحارى العربية!
ضيق الخيارات الإسرائيلية
يُتوقّع أن يستمرّ أو يطول تصنيف سوريا كـ "دولة راعية للإرهاب" واعتبار قيادتها "إرهابية" عندما لا تقدّم التنازلات المطلوبة. كما لن يُنسى ماضيها، كما قال وزير خارجية لوكسمبورغ الخميس الماضي (2024.12.19) في "جبهة النصرة" و"القاعدة" وعناوين أخرى. وستستمرّ عقوبات قيصر وما قبل قيصر المالية وحظر السفر، والحرب على عملة سوريا وصادراتها ووارداتها، وضوءاً أخضر لعدوانية إسرائيلية متواصلة، كلها أدوات للإخضاع والابتزاز. وقد لا تعود إلى وضع الدولة الطبيعية حتى ينهار النظام الدولي الراهن ومعه الهيمنة الغربية!
إن أحد أسباب العدوانية الإسرائيلية، حتى يومنا هذا، ليس تهديد سوريا لـ "إسرائيل" قطعاً، بل هو ضيق الخيارات الاستراتيجية الإسرائيلية في الإقليم، والمرتبطة بطبيعة وسياسات الكيانات الاستيطانية التوسّعية وبإنكارها حقّ الآخرين في الوجود، وبترتيب سوريا في أجندة التوسّع الصهيونية.
كذلك، سيقوم الغرب بافتعال مشكلات طائفية وإثنية وقومية في سوريا ومظلوميات مزعومة. وقد يخترع ميليشيات و"مقاتلين لأجل الحرية" الدينية والقومية والإثنية من هذه الأقليات، ويدعمها بالسلاح والاستخبارات ومزيد من العقوبات.
هذه تحديات الانكشاف الاستراتيجي الراهن، وللحديث بقيّة حول سبل وخيارات الخروج منه.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً