تحولات أيديولوجية كبرى: أفول النظام الليبرالي الدولي؟
سينهي ترامب الشراكة الأمنية والاستراتيجية مع أوروبا، وقد يتفاهم مع روسيا على حساب أوكرانيا، مصدعاً تحالف الديمقراطيات الغربية، ومحدثاً تحوّلاً كبيراً في النظام الليبرالي الدولي.
أسفرت الانتخابات الأميركية الأخيرة عن هزيمة معسكر العولمة الليبرالية وسيطرة معسكر المستوطنين البيض بقيادة ترامب على البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس ومعظم حكومات الولايات والمقاطعات، بجانب المحكمة العليا (الدستورية).
تنذر هذه النتائج بتحوّلات أيديولوجية واستراتيجية كبرى طال انتظارها، كما طال انتظار العالم بين نظام دولي جديد لا يأتي ونظام دولي راهن منقضي الصلاحية لا يرحل! تكرس هذه النتائج، في أحد وجوهها، انتصار النزعة الانعزالية ضمن رؤية تمنح الأولوية لمصالح الولايات المتحدة، اقتصادياً واستراتيجياً.
عبّر ترامب عن هذه التحوّلات القادمة بأنها ستكون نهاية «النظام الليبرالي العالمي» القائم على رؤية أيديولوجية وليس مصالح موضوعية، وأن المرجعية الأيديولوجية الليبرالية ليست أساساً صالحاً لشراكات سياسية واقتصادية يجب أن يحكمها منطق المصالح فقط.
إعياء دفاعي أوروبي
تمثل أوروبا إحدى أهم الساحات التي ستشهد تحولات وتحديات هامة إزاء التهديد الروسي وعلاقاتها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية بأميركا في ظل رفض ترامب ومعسكره الصريح استمرار أميركا في حماية الازدهار الأوروبي وتحمِّل أعباء الدفاع عنها بلا مصالح حقيقية.
وأظهرت حرب أوكرانيا إعياءً دفاعياً أوروبياً واعتماداً أمنياً واستراتيجياً على الولايات المتحدة، رغم تحذيرات ترامب وضغط وقائع الميدان على الأرض.
وكان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول (1890-1970)، في شبه نبوءة، قد حذر الأوروبيين منذ الستينيات من تخلي أميركا في نهاية المطاف عن أوروبا وخروجها منها. فالأيديولوجية الليبرالية المشتركة لا تمثل أساساً لتحالف دائم؛ كما تنبئ تحولات مستجدة في الواقع الدولي، ستكون لها تداعيات هامة على بنية النظام الدولي وتوازناته.
وكان ديغول قد ساورته مبكراً شكوك في أن الأميركيين يطبعون دولارات بلا غطاء من الذهب، وإن استمرت مبادلة الذهب بالدولار وفق المعيار المعتمد. فأوعز إلى وزير ماليته، عند حلول موعد دفع قيمة إيجارات قواعد عسكرية أميركية في فرنسا، مقوّمة بالدولار، بأن يتقاضاها ذهباً وليس نقداً، ما أدى في النهاية إلى "صدمة نيكسون" عام 1971 وإلغاء غطاء الدولار بالذهب.
لقد تواترت أصوات أوروبية مؤخراً تدعو الاتحادَ الأوروبي إلى الاستعداد لافتراق الولايات المتحدة عنه بعد شراكة وتحالف مديدين. ويُتوقع أن يزعزع انتخاب ترامب دعائم الازدهار الأوروبي من تبادل تجاري بين ضفتي الأطلسي، ونظام أمني عماده «حلف شمال الأطلسي»، وديمقراطية ليبرالية جامعة.
النموذج الاستيطاني الأميركي
اقتصادياً، انفصلت أوروبا منذ عقود عن العملاقين المتنافسين: الولايات المتحدة والصين، وشهد اقتصادها تراجعاً وانكماشاً وانخفاض الاستثمار الخارجي. أمنياً، عانت أوروبا من صعود الانعزالية الأميركية من جهة، وتصاعد التهديد الروسي من جهة أخرى. كما تراجعت كثيراً وحدة المرجعية الليبرالية، جوهر مفهوم الغرب المعاصر، بين جناحيه الأوروبي والأميركي.
ألقى النموذج والتاريخ الاستيطاني الأميركي بوطأته على مجمل التجربة الغربية، عبر سمات متعددة، خصوصاً القيم المحافظة والروح التوراتية العبرية التي تشكل أساس «الدين المدني»: دين الدولة، ومؤسسات العدالة والإدارة والشُرطة وفرض القانون وروح الاجتماع الأميركي. نشأ «الدين المدني» عن أيديولوجية المستوطنين «البيوريتانيين» الأوائل الذين طُردوا من إنكلترا بعد انهيار ثورة كرومويل، مُكرّساً يهوه "إله التوراة"، مرجعاً أعلى بعنصريته وعنفه وشراسته!
وهذا يفسر شراسة الدولة الأميركية وعنفها وسلطويتها وعنصريتها وعدوانيتها وغشمها وتطرف قوانينها. وقد أكد حاخام مهم في كتاب عن تاريخ اليهود في أميركا، أن الأميركيين «أكثر يهودية من اليهود» لأنهم «تبنوا كل أفكار اليهودية»، وقارن بين «يهود الجسد (أميركا)، ويهود الروح الذين هم نحن»!
ستظل القومية المسيحية البيضاء حاضرة في السياسة الأميركية، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الأخيرة والقادمة، وتتغذى من مفهوم «الدين المدني» كمرجعية صلبة، وإن اختزلت في طابع إثني أنكلوسكسوني ضمن النسيج الأميركي.
رفض الليبرالية
تزيح النزعة القومية القائمة على هوية إثنية ودينية المرجعية الليبرالية من طريقها، وتتجاوز حتماً الطابع «المدني» المفترض للتجربة الأميركية. ويبقى تحقيق المساواة والعدل الاجتماعي رهن رؤى متصادمة تُخشى مآلاتها المستقبلية. لم تشهد التجربة الأميركية تاريخياً إلا قليلاً من التنوير وحركات التغيير الاجتماعي والحقوق المدنية التي كانت تقابل بالعنف والقمع وسفك الدماء، خصوصاً احتجاجات عبيد المزارع والمناجم وعمال المصانع.
سيتواصل الاستقطاب الأيديولوجي، في الواقع السياسي الأميركي، بين النزعتين "الليبرالية" و"القومية الدينية" المحافظة. ورغم تغلب الأخيرة حالياً، فإن البلاد سائرة نحو صدع فكري واجتماعي حاد، قد يلامس حرباً أهلية يُحذر منها كثيرون بمختلف الاتجاهات.
عندما كانت الولايات المتحدة تواجه خطراً وجودياً أثناء الحرب الباردة، كانت بحاجة إلى العمق الأوروبي كخط دفاعي متقدم، بقدر ما قدمت مظلة دفاعية فاعلة لأوروبا. لكنها اليوم لا تعد روسيا خطراً مماثلاً للاتحاد السوفياتي، حتى وإن مثلت «تهديداً حقيقياً» لأوروبا، في حين تحرص الدول الأوروبية على استمرار مصالحها مع الصين التي يراها ترامب تهديداً رئيساً للريادة والهيمنة الأميركية في العالم.
يرى فرانسيس فوكوياما أن انتصار ترامب ومعسكره يستتبع تحولات استراتيجية، ويظهر رفض الناخبين الأميركيين لليبرالية وأيديولوجيتها حول المجتمع الحر. لدى انتخاب ترامب عام 2016 بأجندته المضادة لليبرالية ظن البعض ذلك استثناء تعود بعده البلاد إلى سيرتها الأولى، وتعزز ذلك الظن بانتخاب بايدن في 2020، لكن يتضح اليوم أن بايدن هو الاستثناء وليس ترامب الذي تحمل عودته تحوّلات كبرى.
تحوّل الطبقة العاملة
يُفترض أن الليبرالية تتبنى احترام الكرامة الإنسانية وسيادة القانون التي تضمن الحقوق وتقلص تدخل الدولة. لكن العقود الأخيرة شهدت انحرافين ليبراليين:
- صعود نيوليبرالية تقدّم مصالح السوق على حماية الشرائح الهشة من طغيان رأسمالي أدى إلى إفقار الطبقة العاملة ونقل الصناعة والإنتاج إلى آسيا. ولم تعد الدولة تحمي تلك الفئات، بل تتبنى الاقتصاد النيوليبرالي.
- ظهور سياسات الهوية ما انعكس في تركّز الاهتمام على قضايا الجندر والملونين وحرية اختيار الهوية الجنسية وتراجع الاهتمام بمطالب الطبقة العاملة التي فاتها قطار الاقتصاد الجديد (المعلوماتي) وباتت تلهث خلف العيش بالحد الأدنى.
غيّرت هذه التحوّلات القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية، فانفصلت الحركة العمالية عن أحزاب اليسار وأصبح العمال والفقراء والمهمشون قاعدة اليمين المتشدد في أوروبا. في أميركا دعم الناخبون البيض من الطبقة العاملة ترامب، وتبعهم ناخبون سود ولاتينيون، بما يعيد أولوية الطبقية والمسألة الاجتماعية.
تظهر هذه التحولات تمرداً على نظام "التبادل الحر" الذي أوجد طبقة من أغنياء البورصة ووادي السليكون، ويمس بالحد الأدنى من عيش طبقة عاملة، فقدت الثقة بأحزاب اليسار المنشغلة بقضايا البيئة والمهاجرين والمتحولين جنسياً لا بحقوق العمال والمهمشين.
نهاية السوق الحرة
أخيراً، نبذ الناخبون الأميركيون النظام الليبرالي محلياً ودولياً، ومعه الليبرالية التقليدية والنيوليبرالية، التي يعاديها ترامب عداء مبيناً، وتعهد بوضع حد لنظام السوق الحرة بتشريعات حمائية وزيادة جمارك الواردات وكبح الهجرة الخارجية المرتبطة تاريخياً بازدهار الاقتصاد. ومع سيطرة معسكر ترامب على السلطات الدستورية الثلاث، تظهر مؤشرات أنه سيتجاوز الفصل بين السلطات، محدِثاً تحولاً عميقاً في النظام السياسي والمؤسسي.
غالباً، سينهي ترامب الشراكة الأمنية والاستراتيجية مع أوروبا، وقد يتفاهم مع روسيا على حساب أوكرانيا، مصدعاً تحالف الديمقراطيات الغربية، ومحدثاً تحوّلاً كبيراً في النظام الليبرالي الدولي.
تظهر خلاصات نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة أن دينامية العولمة، رغم أنها وحّدت السوق وحررت التجارة، أنتجت أزمات اجتماعية أطاحت الأساس الليبرالي لكل ذلك، وأرست سياقاً يحدِّد الديناميات السياسية في مجتمعات الغرب (الديمقراطية). وجاء صعود ترامب تعبيراً بليغاً عن هذه التحولات الكبرى.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً