عملية ديزنغوف.. فشل أمني إسرائيلي على الهواء مباشرة
مثّلت عملية شارع ديزنغوف في وسط مدينة "تل أبيب" تأكيداً لفشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية في مواجهة العمل الفدائي الفلسطيني، الذي استطاع أن ينفّذ أربع عمليات متتالية في قلب الدولة الموقتة في أقل من شهر. لكن، لم يتوقف الفشل عند حدود الأمن الإسرائيلي، بل تخطّاه تجاه فشل الإعلام الإسرائيلي في تغطيته الإعلامية لعملية الشهيد رعد، التي كشفت ثغرة كبيرة في جدار الإعلام الإسرائيلي الموجَّه، والذي يمتاز، على مدى تاريخه، بالتزام الرقابة الصهيونية، سواء النابعة ذاتياً، أو المفروضة خارجياً.
فعلى مدى أكثر من ثلاث ساعات من التغطية المباشرة من جانب قنوات التلفزة الإسرائيلية ومواقعها الإخبارية، استطاع الإعلام الإسرائيلي نقل تفاصيل العملية وما تلاها من عمليات ملاحقة لمنفذها، لحظةً بلحظة.
لكن ما لم ينجح في إدراكه المراسلون الميدانيون وقنوات التلفزة الإسرائيلية هو أن تأثير تلك المشاهد المباشرة، والتي نقلت صورة "دولة" كاملة، بجيشها ووحداته الخاصة وأجهزتها الأمنية، تلاحق فدائياً فلسطينياً نفّذ عملية في شارع يُعَدّ مركز مدينة "تل أبيب"، عاصمة الجبهة الداخلية الإسرائيلية ورمز أمنها واستقرارها، بالتأكيد لن تنتهي تداعياته مع انتهاء التغطية المباشرة.
تَخَطّى السلوك الإعلامي الإسرائيلي مرحلة المهنية في تغطيته المباشرة لعملية ديزنغوف، إلى مرحلة التأثير في البعد النفسي لـ"المجتمع الإسرائيلي"، الذي يدبّ فيه الرعب مع كل لقطة من مشاهد البث المباشر، وتنتابه حالة من الهستيريا، ويفقد مع مرور كل دقيقة من التغطية الإعلامية الثقة بقدرة المنظومة الأمنية الإسرائيلية على توفير الأمن الشخصي له، ويتعمق لديه الشعور بفقدان الأمن، وخصوصاً أن التغطية الإعلامية المباشرة انتهت، وما زال منفّذ العملية حراً طليقاً ومسلحاً، الأمر الذي أوقع في أنفُس نصف مليون مستوطن من سكان "تل أبيب" الشعور بالتهديد المباشِر والخوف، وبات كل واحد منهم يخشى، في قرارة نفسه، أن يكون المستهدف القادم من جانب الفدائي منفذ العملية.
توالت الانتقادات لقنوات التلفزة الإسرائيلية في ضوء تغطيتها الإعلامية لعملية ديزنغوف؛ تلك القنوات التي قدّمت مصلحتها في الحصول على أكبر عدد من المشاهَدات على حساب أمن "المجتمع الإسرائيلي". لذلك، كتب الناقد التلفزيوني الإسرائيلي، روجل الفر، في جريدة "هآرتس"، "أن محاولة قنوات التلفزة الاسرائيلية تغطية عملية ديزنغوف بهذه الطريقة، سبّبت كارثة استراتيجية للمجتمع الإسرائيلي، ستكون لها تداعيات خطيرة، مثل عملية إعلامية هجومية ذات قوة هائلة". بل في حادثة غريبة على العلاقة المتناغمة والمتكاملة بين وسائل الإعلام الإسرائيلية والمؤسسة الأمنية، أرسلت قيادة كل من الجيش والشرطة وجهاز الأمن العام ("الشاباك")، لدى الاحتلال الإسرائيلي، رسالة تأنيب حادة إلى قنوات التلفزة الإسرائيلية، ورد في جزء منها "أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية حوّل ملاحقة قوات الأمن لمنفذ العملية إلى نوع من برامج تلفزيون الواقع، من دون أي رقابة رسمية أو مسؤولية ذاتية". ونعتقد أن هذه الرسالة الناقدة والعلنية والشديدة اللهجة، نتجت من خلال عدة أسباب، أهمها:
1. إن هذا الشكل من التغطية المباشرة أفشل كل جهود المؤسسة الأمنية والسياسية ومحاولاتها، على مدى الأسبوعين الماضيين، من أجل استعادة الشعور بالأمن لدى "الجمهور الإسرائيلي"، بل زادت التغطية الطين بلة كونها كشفت أن الفشل الأمني الإسرائيلي لا يقتصر على عدم قدرته على منع حدوث العمليات الفدائية قبل تنفيذها، بل يمتد الفشل إلى طريقة التعامل مع العمليات الفدائية في أثنائها، وبعد حدوثها، على الرغم من أن الجيش والشرطة نشرا عشرين كتيبة عسكرية وشرطية لتعزيز الوجود، عسكرياً وأمنياً، داخل المدن الإسرائيلية، وعند الحدود مع الضفة الغربية.
2. كشفت التغطية معلومات تعدّها المؤسسة الأمنية والعسكرية أسراراً يُحظَر نشرها، مثل وجوه جنود القوات الخاصة وشخصياتهم، ونوعية أسلحتهم ومعداتهم، وأساليب عملهم، الأمر الذي يمنح معلومات حساسة لكل من يخطط مكن أجل تنفيذ هجوم على المدن الإسرائيلية واقتحام لها.
3. إن تطور وسائل الإعلام وسهولة البث المباشر شكّلا تحدّياً جديدا للمنظومة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، بحيث باتت العمليات الفدائية تُبَثّ عبر الهواء مباشر، الأمر الذي زاد في حماسة الفلسطينيين، وهم يشاهدون، عبر البث الحيّ المباشر، كيف استطاع شاب فلسطيني بمسدس وبضع طلقات أن يوقف "دولة" كاملة على أطراف أصابعها مدةَ عشر ساعات متواصلة، الأمر الذي يمثل نموذجاً ملهماً لمزيد من العمليات الفدائية الأخرى؛ آخر ما تتمناه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وكابوسها الدائم.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.