غزة وإرباك حسابات نتنياهو الانتخابية
الخيار الأول, الصمت، من خلال تعامل الجيش الإسرائيلي اليومي الروتيني، مع استمرار وتصاعد زخم مسيرات العودة، الأمر الذي يهدّد حظوظ نتنياهو في الانتخابات المقبلة، من خلال تآكل لقب رجل الأمن في "إسرائيل" أمام نواته اليمينية الانتخابية.
الخيار الثاني، تخفيف الأزمة الإنسانية في غزّة، من خلال اتفاق تهدئة مقابل كسر الحصار، لكن نتنياهو في هذه الظروف غير جاهز لدفع ثمن كسر الحصار عن غزّة، حيث سيظهر بصورة المُنهزِم أمام المقاومة في غزّة على المستوى الشخصي، واعترافاً ضمنياً من الحكومة الأكثر يمينيةً في تاريخ "إسرائيل" أن مسيرات العودة وكسر الحصار الخيار الحقيقي للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، بعيداً عن مشاريع التسوية، والتنسيق الأمني، ما سيعزّز فرصة اتّساع الرقعة الجغرافية للمسيرات لتصل الضفة الغربية ، الأمر الذي يحذّر منه جهاز الشاباك الإسرائيلي في تقديراته الأخيرة.
الخيار الثالث، تقديم خطوات أحادية بالتعاون مع المجتمع الدولي للتخفيف من الحال الإنسانية في غزّة لتبريد جبهتها، الفكرة التي تدعمها المؤسسة العسكرية الصهيونية, والأدلّة كثيرة على تفضيل نتنياهو لهذا الخيار، أوضحها اتفاق توريد الوقود لغزّة لمضاعفة عدد ساعات الكهرباء التي تصل للمواطن الغزّي، بتمويل المال القطري، وبوساطة الأمم المتحدة، لكن هذا الخيار اصطدم بصخرة الإصرار الفلسطيني على عدم مُقايضة استمرار مسيرات العودة بحلول ترقيعية للأزمة الإنسانية في غزّة .
ليس من باب السهو استبعادنا خيار شنّ حرب إسرائيلية على غزّة ، رغم أن التجارب تعلّمنا أن الأمور الميدانية تحمل بطيّاتها الكثير من المفاجآت غير المخطّط لها ، لكن في ظلّ هذه الأجواء السياسية في دولة الاحتلال، الحرب لن تفيد نتنياهو، ولا حزب الليكود، كون الوضع الحالي مريحاً لهم، والاستطلاعات تمنحهم تفوّقاً على منافسيهم، لذا الذهاب إلى حرب ممكن أن تحدث مفاجآت، قد تغيّر صورة المشهد السياسي الصهيوني لغير مصلحتهم، وبالتأكيد لجنة "فينوغراد" في خلفيّتهم الذهنية.
لا ترى المؤسّسة العسكرية بأن الحرب على غزّة ناجعة، خاصة مع تيقّنها أن المستوى السياسي الصهيوني ليس لديه أهداف سياسية تجاه غزّة، بمعنى لا استراتيجية واضحة للتعامل مع غزّة ، فمهما حقّق الجيش الإسرائيلي، سيبقى غير منتصر في هذه الحرب، لعدم امتلاكه محدّدات للنصر، وأن الأمر سيعود لما كان عليه قبل الحرب ، ولكن الجيش مدرك أن الحرب من الممكن تفاديها ببعض التسهيلات الإنسانية من دون دفع أثمان باهظة بلا مقابل سياسي.
وبذلك أهم لاعبين أساسيين في صناعة قرار الحرب داخل المطبخ الحكومي الإسرائيلي " الكابينت"، لا مصلحة لديهم في شنّ حرب على غزّة، لذلك تصريح نتنياهو بأنه" إذا معاناة المواطنين الإنسانية في غزّة تحسنّت، هذا أمر مطلوب، ولكن ليس متأكداً أن هذا سيحدث ، لذلك نستعد لعملية عسكرية ، هذا ليس كلاماً فارغاً"، يجب أن يقرأ على أنه رسائل سياسية بلغة التهديد بالحرب، وليس إعلاناً عنها، أهم هذه الرسائل:-
أولاً. تحميل الفلسطينيون مسؤولية أية حرب، أو تصعيد على غزّة ، وخاصة السلطة الفلسطينية في رام الله المعارضة لنقل الوقود إلى غزّة ، وبذلك تظهر "إسرائيل" أمام العالم أنها قامت بكل جهد ممكن للتخفيف عن غزّة، وإبعاد شبح الحرب, وبذلك تشرعن ذهابها لسيناريو الحرب، إن حدثت بفعل تدحرج الأوضاع الميدانية خارج إطار السيطرة الصهيونية.
ثانياً. نتنياهو يرسل رسائل ردع للمقاومة في غزّة، مفادها أن دولة الاحتلال، رغم أنها لا ترغب بالحرب، ولكن جيشها مستعد لكل الاحتمالات ، وكأنها دعوة من دولة الاحتلال إلى المقاومة بعدم رفع سقف التصعيد لمسيرات العودة وكسر الحصار الجماهيرية السلمية، أو الفعل العسكري المقاوِم، وكأن نتنياهو يبحث عن تثبيت معادلة الهدوء مقابل الهدوء، متجاهلاً أن الحصار الذي تفرضه "إسرائيل" على إثنين مليون إنسان في غزّة اعتداء حربي، يستوجب الدفاع من قِبَل غزّة ومقاومتها ضدّه.
ثالثاً ، الواضح أن نتنياهو يتبنّى رؤية الجيش، القائلة إن التخفيف عن غزّة يبعد شبح الحرب ، لذا هذا التصريح بجزء كبير منه موجّه للداخل الصهيوني، كمحاولة لحشد الرأي العام الصهيوني، حول فكرة أن عدم التخفيف عن غزّة معناه حرب فعلية ، بكل ما تحمله الحرب من تداعيات على المجتمع الصهيوني عسكرياً، واقتصادياً، وحتى اجتماعياً.
مسيرات العودة وكسر الحصار لم تتحوّل إلى حال استنزاف للجيش الإسرائيلي، من خلال مواجهة على مدار الساعة بفعل وحدات الإرباك الليلي فقط، بل تخطّت ذلك إلى حال من الإرباك السياسي للمشهد الإسرائيلي الداخلي، يقف نتنياهو حائراً أمام خياراته السياسية.
D.H