بعد السَّلام المنفرد... ماذا وراء جولات التطبيع؟
حاول كيان العدوّ سابقاً الانطلاق من عمليات السلام المتعاقبة لإرساء واقع ثقافي مشترك بين أبناء المنطقة وشذّاذ الآفاق الصهاينة، مطلقاً في ذلك سفارات وبرامج سياحيّة وغير ذلك، غير أنَّه فشل بعد أن تحوّلت سفاراته إلى محميّات، وتحوّل سائحوه إلى مجموعات تتجوّل بمواكبة أمنيّة، أو لصوص تأتي خلسة لالتقاط بعض الصور ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي.
الواقع وتسلسل الأحداث يؤكّدان أنَّ المسعى الأميركي للكشف عن حال التقارب الموجود بين كيان العدوّ وبعض دول الخليج، يأتي لتحقيق أهدف سياسيّة خلفها غايات يجب استشرافها وتحديد آثارها ومخاطرها، كي لا نحصد - مرّة أخرى - عواقب ونتائج السّلام المنفرد مع ذلك الكيان البغيض.
من كامب ديفيد إلى وادي عربة، وصولاً إلى مدريد وأوسلو، جرى فصل المسارات العربيّة عن بعضها البعض، وإرساء حالة توازن أمني منفصل مع كل دولة من دول الطّوق الأربع، إضافةً إلى منظمة التحرير الفلسطينيّة.
أمّا النتائج، فكانت عزل مصر عن قيادة العالم العربيّ، ووضع الأردن في حالة هدنة مفتوحة، والعمل وفق قرار وقف إطلاق النار رقم 338 مع سوريا، وحصر منظمة التحرير الفلسطينيّة داخل الضفّة الغربيّة لإخراجها من معادلة الصّراع، وأخيراً توازن الرّدع الذي فرضته المقاومة بدعم إيراني وسوري في لبنان.
في المحصلة، نجحت "إسرائيل"، ومعها الغرب، في الوصول إلى غايات كامنة خلف عمليات السلام المتعاقبة، وهي إيجاد توازنات منفصلة عبر التفاهمات المنفردة، وليس عبر السلام الشامل الذي حاولت سوريا ورئيسها الراحل حافظ الأسد الدفع باتجاهه، الأمر الَّذي أدى إلى تأطير حالة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، وبالتالي إطالة أمد الكيان الغاصب في المنطقة.
وبالعودة إلى جولات التطبيع القائمة، ولتحديد غاياتها، سننطلق من متغيّرين أساسيين استجدّا مؤخّراً، وكان لهما أبلغ الأثر في قلب الموازين والدفع باتجاه إلزام العدوّ للكشف والإعلان عن تلك العمليات السياسيّة الموجودة أصلاً. المتغير الأوّل هو وضعيّة إيران العسكريّة المستجدّة في المنطقة. أما الآخر، فهو حالة شعوب دول الخليج الثقافيّة المتقاطعة مع شعارات الجمهوريّة الإسلاميّة ومواجهة الاستكبار.
قبل اغتيال الفريق سليماني، كانت حالة الاشتباك المعلن بين إيران والولايات المتحدة في العراق وسوريا وفي مياه الخليج، تسلك مساراً ثابتاً نسبياً، فبعد خروج القسم الأكبر من القوّات الأميركيّة من العراق في عهد أوباما، وإبقاء تواجد عدد محدّد بمهام تدريبيّة ولوجستيّة (تطوّرت لاحقاً إلى دعم عمليات الجيش العراقي في حربه على الإرهاب)، سلكت حالة الاشتباك نوعاً من توازن هشّ بقواعد غير معلنة، خرقته بعض التجاوزات الأميركيّة التي استوجبت الردّ المناسب من قبل القوّات الإيرانيّة، لعلّ أهمها إسقاط طائرة "آر كيو-4 غلوبال" الأميركيّة فوق المياه الإقليميّة لإيران.
وبعد عمليّة الاغتيال والردّ الإيراني على قاعدة عين الأسد، تمّ الإعلان بشكل رسميّ على لسان أرفع القادة في الحرس الثوري، عن أنَّ تلك الضربة ليست ردّاً على اغتيال القائد سليماني، بل هي إعلان عن مرحلة جديدة لن تتوقف إلا بإخراج القوّات الأميركيّة من كلّ المنطقة.
لهذا الإعلان بالمعنى الاستراتيجي بعدان أساسيان؛ الأوّل هو إعلان إيران عن الوضعيّة الأمنيّة والعسكريّة المستجدّة في المنطقة، حيث سيكون لديها موقف هجومي، وبالتالي الإعلان عن نفسها - ولأوّل مرّة - قوّة عظمى إقليميّة مقابل قوّة عظمى أخرى هي الولايات المتحدة الأميركيّة. أما البعد الثاني، فهو الانطلاق من عمليّة الاغتيال الآثمة لتوفير المبرر الأخلاقي للحملة، وهنا تأكيد للطرف المعادي على أنّ الجمهوريّة الاسلاميّة جادّة في ما أعلنته وفي ما هي قادمة عليه.
هذا بالنسبة إلى المتغيّر الأوّل الذي يبدو أنه وضع قوّات الولايات المتحدة العاملة في الخليج في موقف دفاعيّ، إذ لم تُظهر حتى الآن موقفاً معاكساً، رغم حساسيّة المرحلة وجديّة الإعلان الإيراني. أما بالنسبة إلى المتغيّر الآخر، والذي قد يعني أميركا و"إسرائيل" - كلّ من موقعه - أكثر مما قد يعنيهما المتغيّر الأوّل، فإن تطوّر حالة الممانعة في الوعي الثقافيّ، وفي وجدان أهل المنطقة وأهل الجزيرة العربيّة على وجه الخصوص، سينعكس لزاماً على مواقف الاستعمار والاستكبار الأميركيّ الإسرائيليّ وقراراته، وسيجبره على وضع المكابح في عجلة الحضور اللافت لثقافة الممانعة ومقارعة الاستكبار الذي تمثّله سياسة الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة والخليج.
من العراق الذي اتّحد خلف قرار المرجعيّة الحكيمة، إلى الكويت وموقف أحرارها في مجلس الأمّة، فالبحرين الصامدة في وجه الظلم والاستبداد، مروراً بكل أشكال الممانعة الداخليّة والخارجيّة ضدّ حكم آل سعود في الحجاز، وصولاً إلى يَمَن الأحرار الذي بات يشكّل منعطف الأحداث في الساحة الإقليميّة والدوليّة.. هذه الصورة كلها تعطي ما يكفي من دلالة على البون الشاسع بين الحالة السياسيّة القائمة والحالة الشعبيّة الممانعة، والتي ستنعكس في آخر المطاف على الواقع السياسيّ والأمنيّ للمنطقة.
يُضاف إلى تلك المتغيّرات الإفلاس الذي وصلت إليه "قوّات التحالف السعودي الإماراتي" في اليَمَن. وبمعنى آخر، الانتصار اليَمني الذي بات يشكّل بحدّ ذاته متغيّراً آخر له بعدان، البُعد الأول دوليّ يتجسّد في حضور محور الممانعة في باب المندب، كما في مضيق هرمز. أمّا البُعد الآخر، فيتجسّد في حضور ثقافة الممانعة في الداخل الخليجي، والتي سوف تتعاظم حتى إسقاط كل أذناب الاستكبار العالمي.
بناءً على ما تقدّم، فإنّ الدّفع الأميركيّ باتّجاه تطبيع العلاقات الإسرائيليّة مع بعض دول المنطقة والخليج، يأتي في إطار تحسين الوضعيّة العامّة للصراع مع محور الممانعة وتطوير الموقف الدفاعي. ذلك التطبيع الّذي قد يؤدي - بحسب تصوّرهم – إلى الحدّ من التردّي الأمني الحاصل في منطقة الخليج، وتعزيز موقف الحكّام في وجه شعوب المنطقة، لن ينعكس على عمليّة تطوير الموقف الهجومي لمحور الممانعة من جهة، وعلى الأداء المتميّز لقادة الجمهوريّة الإسلاميّة في المواجهة الثقافيّة والحضور اللافت في وجدان شعوب المنطقة من جهة أخرى، بل ستشهد الأيّام الآتية نتائج عكسيّة تطيح بسياسة الأعداء ورؤوس الخونة على حدّ سواء.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً