الصواريخ الدقيقة والمأزق الإسرائيلي
قد ينجح نتنياهو بالتذاكي على شرائح مُعيّنة في ساحاته الانتخابيّة بأنّه الأقوى والقادِر على الكلام بصوتٍ مُرتفعٍ، ولكنّ ذلك التزاكي لن يمرّ بالتأكيد على شرائح الأمّة المقاوِمة التي تنظر إلى ذلك العدو باستهزاء
يدعو نشاط العدو المتصاعد على خط صواريخ المقاومة الدقيقة إلى كثيرٍ من التساؤلات، ليس أقلّها أن مساعيه تهدف بالدرجة الأولى إلى زجّ الأمم المتّحدة على خط "الأزمة" ومحاولة تدويل مسألة امتلاك المقاومة لهذا المستوى من التسليح.
الصواريخ الدقيقة هي من أسلحة الجيل الرابع التي يُميِّزها اعتمادها على التكنولوجيا في الصناعة وفي آليات التصويب، وبغضّ النظر عن صُنف تلك الصواريخ أكانت بالسيتيّة أو مُجنَّحة ورغم الاختلاف العالي في الأهميّة، تبقى تلك الصواريخ الدقيقة أسلحة كاسِرة للتوازُن ومُرعِبة للخصم ويُشكّل امتلاك المقاومة لها أزمة بكل معنى الكلمة.
بدأت مفاعيل الموضوع أواخر العام الماضي بعد الادّعاء الذي تقدَّم به نتنياهو أمام الجمعيّة العامة لمجلس الأمن بوجود مخازن لصواريخ يمتلكها حزب الله قرب مطار بيروت وأماكن أخرى، فجاء الردّ اللبناني بمُبادرةٍ من وزير الخارجيّة جبران باسيل الذي جال بصحبة جَمْعٍ كبيرٍ من السفراء والإعلاميين على تلك الأماكن مُفنّداً مزاعِم العدو بالدليل الميداني.
لم تكن يومها القضيّة مُرتبطة بالصواريخ الدقيقة بشكلٍ مباشرٍ حيث قال نتنياهو إن المقاومة تمتلك القليل منها، ولكن الضرب على هذا الوتَر أخذ بالتصاعُد تدريجاً هذا العام من خلال عرض العدو الصوَر لمصانع في البقاع وتسمية الاشخاص المسؤولين عن البرنامج وتهديد المقاومة "بأن الردّ قادِم لا محالة"، فكان جواب السيّد نصرالله في خطاب الأول من المحرَّم أن نتنياهو يتّخذ من الصواريخ الدقيقة شمَّاعة لتغيير قواعد الاشتباك.
وعلى أثر هذا السِجال المُتراوِح بين مواقف إسرائيليّة وردود من الطرف اللبناني المُتمثّل بالدولة والمقاومة، يبدو جليّاً أن الغاية الإسرائيليّة في ذلك لا تقف عند حدود تدويل مسألة الصواريخ الدقيقة بل تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فتدويل قضيّة بهذا العنوان لن يجد صدىً في أروقة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، لأن الصواريخ الدقيقة ليست أسلحة مُحرَّمة دوليّاً كما وأنها ليست أسلحة دمار شامل.
يدفع "الإسرائيليّ" ومَن وراءَه باتجاه فرض منطق جديد على واقع الصراع القائم مفاده أن تسليح الأطراف المناوِئة "لإسرائيل" الإقليميّة ولأميركا الدوليّة هو مقيّد بسقف وغير مُطلَق، وبتعبير آخر فإن الطرف الذي يسعى إلى كَسْرِ التوازُن القائم لصالحه فإنه بذلك سيقود المنطقة إلى حربٍ تحت هذا المُسمَّى والعنوان.
ليس من الغريب أن يعتبر العدو أن امتلاك المقاومة لأسلحةٍ مهمّةٍ هو أزمة مُضافة في أزماته الداخليّة والخارجيّة، كما وأن له كامل الحقّ أن يحوّل تلك الأزمة إلى فرصة تهديد مُعزَّزة بدعمٍ أميركيّ وسكوت دوليّ، لكن الغريب في الأمر كيفيّة ترجمة تهديده بشنّ حروب على خلفيّة الأسلحة الكاسِرة للتوازُن وهو الذي أوقفته المقاومة على قدم ونصف لعقوبة نفّذها بكلّ خشوع وطاعة.
لقد مارس "الإسرائيليّ" وغيره من المُستكبرين في السابق سياسة تحديد سقوف التسليح لدى الخصوم والتلويح بالحرب في سبيل ذلك، ولا ندَّعي أن تلك المساعي غير مُبرَّرة وفق منطق الصراع القائم على مبدأ القوّة أصلاً، أو أن السعي إلى خلق توازن ليس مطلباً جديّاً وضروريّاً لاقتصاد وقوّة الطرف الأقوى على وجه الخصوص، ولكنّ الذي ندّعيه حقّاً أن تلك الحركات والمساعي التي يقوم بها نتنياهو ليست أكثر من تخرّصات لتحقيق مكاسب انتخابيّة له ولحزب الليكود.
يُدرِك القاصي والداني ومَن له أدنى معرفة بالعلاقات الدوليّة ومنطق الصِراع أن توازن القوى يأتي إمّا على أساس قانونيّ وإمّا على أساس منطق الغَلَبة الذي يفرضه المُنتصرون بالعادة، فالأول الذي يأتي على أساس قانونيّ كما هي الحال في عهد وعُهدة مجلس الأمن الدوليّ فإنه يبدأ بالقواعد التي تحكّم النّظم لتُفضي بالنهاية الى توازنات أمنيّة، أما الثاني الذي يقوم على منطق الغَلبة فإنّه يبدأ أولاً بخلق توازن بقوّة الأمر الواقع ثمّ وضع نُظم مناسبة له في ذلك ثمّ التّقعيد لها لاحقاً وإرسائها كحالٍ قائمة بذاتها.
هنا يعمل العدو الإسرائيليّ على المسارين بشكلٍ متوازنٍ، فهو لا يتواجه مع المسار القانوني القائم على القواعد الدوليّة طالما أن تلك القواعد قد صيغت أصلاً للتخفيف من آثار الأسباب التي تؤدّي إلى التوتّر، وهذا منطق فضّ النزاعات في مجلس الأمن للأسف، وفي هذه الحال سيجني "الإسرائيليّ" تأييد مجلس الأمن طالما أنه ليس هو الطرف المُسبّب للحرب، بينما في المقابل وحيث أنّه يعتبر نفسه طرفاً إقليمياً فإنه يحاول جاهِداً وواهياً فرض توازنه بمنطق الغَلَبة وإرساء النّظُم والقواعد التي تناسبه.
وفي النهاية، فقد ينجح نتنياهو بالتذاكي على شرائح مُعيّنة في ساحاته الانتخابيّة بأنّه الأقوى والقادِر على الكلام بصوتٍ مُرتفعٍ، ولكنّ ذلك التزاكي لن يمرّ بالتأكيد على شرائح الأمّة المقاوِمة التي تنظر إلى ذلك العدو باستهزاء، ولن يطول الزمن الذي سنرى فيه نتنياهو وحزبه وقد انضمّوا جماعيّاً إلى نادي السياسة للصبيان.