لبنان على خطّ صراع المحاور
منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، توقَّفت مفاعيل الصراع الإيديولوجي والحرب الثقافيّة والنفسيّة بين قطبي الصراع آنذاك. وبالتوازي، توقَّفت أيضاً اشتباكات الأطراف الإقليميّة التي كانت ترجمةً لتلك الحرب، والارتدادات التي تسببت بانقلاب عسكريّ هنا أو بحرب طاحنة هناك.
شكّل لبنان في ذلك الوقت الساحة الأبرز لاشتباك كل الأطراف الدوليّة والإقليميّة، فضلاً عن المحليّة، إذ طغى النزاع المسلّح على مشهد أحداثه، وكاد بعد 15 سنة من الحرب أن يطيح ببلد كان يوصف بأيقونة الشرق.
حالياً، يشهد الحوض الشرقيّ للمتوسط مجموعة أحداث متعاقبة أفضت إلى حدوث تشابكات مريبة، ظهر بعضها في تحريك أساطيل ومجموعات بحريّة، وبعضها في تصريحات ومواقف الأطراف التي أفصحت عن وجود اصطفافات سياسيّة وأمنيّة بدأت تتضح معالمها، في مشهد لم تألفه المنطقة منذ أن زارتها "القوات المتعددة الجنسيّات" في العام 1982.
وهنا، يمكن تصوّر المشهد في ضوء العلاقة الجدليّة الدائمة والمستمرّة بين التجارة والحرب، وانطلاقاً مما يمثّله هذا الحوض من أهميّة تجاريّة كبرى كممرّ باتجاه أوروبا الاستهلاكيّة، وكمعبر إمداد للطاقة - وخصوصاً أنابيب الغاز - باتجاه أوروبا الصناعيّة.
من جهة الطرف الأميركي، صاحب الحضور الدائم في البحر المتوسط - كما في كلّ ممرات التجارة العالميّة - فإن مسعاهُ في تحريك أساطيله ونقل جزء من حصّته في الناتو باتجاه إيطاليا، يأتي متوازياً مع مساعيه في بحر البلطيق، حيث خطّ السيل الشماليّ، وضرورة التحكّم بأمن التجارة والطاقة للاتحاد الأوروبي الذي يسعى إلى الانفكاك السياسيّ والأمنيّ عن المجموعة الغربيّة.
ومن جهة الطرف التركيّ فقد نجح سابقاً - وبشكل لافت - في استثمار موقعه الجغرافيّ وقوّته البشريّة والعسكريّة لأداء دور إقليميّ ناجح كثاني أكبر شريك في الناتو بعد الولايات المتحدة، مهمّته الأولى حماية خاصرة أوروبا الشرقيّة، والثانية ديمومة السيطرة على معبري البوسفور والدردنيل، مقابل الطموح السوفياتي سابقاً، والروسيّ حالياً، في تأمين معبر باتجاه البحر المتوسّط، ومنه إلى بحار العالم.
وللأسباب نفسها التي فرضها موقع تركيا الجيوسياسي، فهي مستمّرة في بسط نفوذها الأمنيّ والسياسيّ على كلّ محيطها الإقليميّ، من أذربيجان إلى العراق وسوريا، مروراً بليبيا وقبرص اليونانيّة، وصولاً إلى لبنان، الذي يبدو أنه سيكون المحطّة النهائيّة والحلقة الأخيرة في ذلك المسلسل التركيّ الطويل.
أما الطرف الروسيّ فقد حقّق نجاحات نسبيّة في الوصول إلى مياه المتوسّط، وذلك عبر استمالة الأتراك الذين فشلوا في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، فلجأوا مجدداً إلى لعبة التوازنات، إذ سهّلوا حركة الروس باتجاه سوريا وبناء قاعدة بحريّة في طرطوس، كما أنشأوا معهم علاقات اقتصاديّة ومجموعة واسعة من التفاهمات العسكريّة، أفضت في نهاية المشهد إلى حضور أمنيّ روسيّ على طول الشواطئ السوريّة، يوازي الحضور الأميركيّ على طول شواطئ فلسطين المحتلّة.
أمّا صاحب العلاقة المباشرة بخطّ التجارة عبر المتوسّط، وبتأمين إمدادات الطاقة، وهو الطرف الأوروبيّ، يبدو أنه بات من دون عمق إقليميّ، وخصوصاً بعد فشله في إدارة الملف الليبيّ وضعف موقفه السياسيّ في تونس، إضافة إلى قبوله - مؤخراً - بتوازن أمنيّ وسياسيّ في قبرص، نتيجةً للاستفزازات العسكريّة بين تركيا واليونان. كلّ ذلك أدّى إلى اندفاع فرنسيّ غير مسبوق باتجاه لبنان، ترجمها الحضور المباشر للرئيس الفرنسيّ وفرضه حلولاً سياسيّة واقتصاديّة لا يمكن وصفها بأقلّ من أنها انتدابيّة.
إلى هنا، مشهد التوتّر في الحوض الشرقيّ للمتوسط، وسعي الأطراف لتثبيت الحضور الأمنيّ فيه، لم يصل في الواقع إلى مرحلة التوازن إلا بعد أن تمّ إدخال الطرف المصريّ، بإيعاز أميركيّ، على خطّ الحسم مع الأتراك، عبر التلويح بالتدخّل العسكريّ في ليبيا من جهة، وباستثارة موضوع الحدود البحريّة بين مصر وتركيا من جهة أخرى.
إذاً، بعد الدخول المصريّ والانكفاء التركيّ، وبعد التوازن على خطّ تركيا - اليونان، عقب التوصّل إلى تفاهمات حول حدود النفوذ في قبرص، يُضاف إلى ذلك الانكفاء الصينيّ عن الاندفاع باتجاه إعمار سوريا عبر الممر اللبنانيّ عقب انفجار مرفأ بيروت. بعد هذا كلّه، يبدو أنَّ المنطقة اتّجهت إلى نوع من توازن القوى الدوليّ والإقليميّ على كلّ خطوط التوتّر، باستثناء خطّين؛ الأوّل في تونس، حيث المسعى الحثيث لإقصاء حكومة الإخوان المسلمين عن الحكم، والآخر في لبنان، حيث المسعى الأوروبيّ عبر الدبلوماسيّة الفرنسيّة للقفز فوق السياج الأميركيّ وفرض سيطرة سياسيّة على لبنان.
بناءً على ذلك، قد يبدو من المريب عدم حصول مواجهة دبلوماسيّة بين باريس وواشنطن في أعقاب التدخّل الفرنسيّ في لبنان، وخلطه كل الأوراق بما لا يتناسب مع توازنات القوى المحليّة التي سبق أن رتبتها السياسة الأميركيّة عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولكن إذا نظرنا إلى حساسيّة الوضع اللبنانيّ، وتحديداً الانهيار الاقتصاديّ، ندرك أنّ عدم تدخّل أطراف غربيّة لبلورة حلّ اقتصاديّ، سيؤدي حتماً إلى إخلاء الساحة اللبنانيّة أمام أطراف شرقيّة، ونقصد هنا الصين وإيران، وهذا تحديداً ما دفع الجانب الأميركيّ إلى عدم معارضة المسعى الفرنسيّ في المحافظة على حالة "عدم الانهيار"، فيما استمرّ هو بنسج العلاقات "المريبة فعلاً" مع الجهات غير الحكوميّة التي طالتها زيارة مساعد وزير الخارجيّة الأميركي ديفيد شنكر الأخيرة.
بعد هذا العرض الموسّع، يبدو أنَّ المشهد اللبناني هو المشهد الأكثر تعقيداً، وذلك لسببين، الأوّل أنّنا، وعلى امتداد كلّ الحوض الشرقيّ، شهدنا أنّ ميزان القوى لدى كل أطراف النزاع وحجم الاصطفافات أفضيا إلى توازن على خطوط الاشتباك كافّة، وبدأ الهدوء يخيّم على المشهد.
أمّا السبب الآخر، فهو أنّ لبنان - سابقاً وحالياً - بسبب ضعفه، وبسبب موقعه الجيوسياسي، وأيضاً بسبب قربه من الكيان الغاصب، سيكون محطّة لتنافس الأطراف، ولتنفيس الاحتقان السائد في المنطقة، أي لترجمة التوتّر الحاصل، عبر السعي لمحاولة تحسين الوضعيّة، أو لإرسال برقيات سياسيّة، أو على الأغلب، لمحاولة استغلاله لإنشاء قاعدة عسكريّة أو عدّة قواعد، على غرار المحاولات السابقة التي باءت بالفشل مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً