الكورد وتبايُنات المصالح الأميركية التركية
يبدو أنّ الكباش السياسي الذي صوَّرته واشنطن وأنقرة لدى الرأي العام لجهة الاختلاف على الورقة الكوردية، يبدو أنه مُزيَّف، وأن المسألة هي اللعب في الوقت الضائِع.
بات واضحاً أن السياسة الأميركية والغربية في سياق الحرب على سوريا، كانت قائمة على تجزئة الدولة السورية إلى عدّة دويلات، بُغية السيطرة عليها، وهذا ما بدا واضحاً من جُملة الملفات الشائِكة التي طُرِحت في الملف السوري، والتي أهمّها ملف الكورد السوريين.
تجاذُبات سياسية عديدة حدثت بين الحكومة السورية ومسؤولين من الجانب الكوردي السوري، خلال الحرب على سوريا، لإيجاد حلٍ لمسألة الإدارة الذاتية وتحقيق ما يُسمَّى الفيدرالية الكوردية، والتي قوبِلَت بالرفض من الحكومة السورية لجهة انفصال الكورد وتشكيل إقليمٍ مستقل.
ومع التطوّرات الحاصلة في الشمال الشرقي من سوريا وتراجُع المشاورات والحوارات بين الكورد ودمشق، والارتماء في حضن الولايات المتحدة، سبَّب ذلك انتكاسات سياسية كُبرى على صعيد المنطقة الشمالية الشرقية، والتي بدأت تداعيات الوثوق بواشنطن تظهر من خلال الهجوم التركي العسكري على الكورد.
هي خطوة نفَّذها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لتنفيذ ما يُسمَّى المنطقة الآمِنة، والتي يُبرِّر إقامتها لتوطين لاجئين سوريين فيها، وليتمكَّن من إبعاد الكورد عن الحدود التركية خوفاً على الأمن القومي التركي.
ما بين التنفيذ الفعلي للاعتداء التركي والتصريحات الأميركية المتعارضة التي عبر عنها ترامب، إضافة إلى وزارة الدفاع الأميركية ومسؤولي الكونغرس، بات الشمال السوري مسرحاً لصراعٍ قديمٍ مُتجدِّدٍ بين الأتراك وميليشيات الكورد، والتي تعتبرها تركيا منظّمات إرهابية.
هي تحالفات عقدتها واشنطن مع الأقلية الكوردية في محاولة استغلال ورقتهم عبر عدًّة نقاط أبرزها:
- تمكين القوات الأميركية من توسيع نفوذها العسكري في سوريا عبر وكلاء (الكورد).
- محاولة إبقاء الدولة السورية في حَلَبَة الصِراع السياسي الداخلي، كون الكورد من النسيج السوري، وبالتالي زيادة عُمق الشَرْخ بين مكوِّنات الشعب السوري.
- إظهار روسيا وإيران الحليفين الرئيسيين للدولة السوري غير قادرين على احتواء الموقف التركي رغم العلاقات السياسية الجيّدة مع الرئيس التركي.
ضمن ذلك، يحاول الرئيس دونالد ترامب إظهار نفسه أمام الرأي العام الأميركي خصوصاً، والدولي عموماً، بأنه قد أكمل مهمته في القضاء على "داعش"، وأن على الكورد السوريين تحمّل أمورهم بأنفسهم.
الامتعاض بدا واضحاً من جانب المسؤولين الكورد وقلقهم عبرت عنه رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية إلهام أحمد حين حاولت إيضاح أن التدخّل التركي في شمالي سوريا "يُهدِّد وحدة أراضي البلاد وستكون نتيجته التقسيم". أحمد قالت للصحافيين في بروكسل "نريد تدخّلاً عاجِلاً في هذه الأزمة، ويجب وقف هذه الهجمات سريعاً"، مُطالبة مجلس الأمن الدولي باتخاذ قرار في شأن "منطقة حَظْر جوي" وأضافت إن "الانسحاب الأميركي جعلنا في خطر"، رغم ذلك لم تجد مطالباتها سبيلاً إلى التنفيذ ومازالت تركيا تتوغل.
وكانت إلهام أحمد اتّهمت تركيا باستخدامها ورقة اللاجئين للضغط على الدول الأوروبية وعَزَت السبب "لتحصل على الأموال واحتلال مزيدٍ من الأراضي في شمال وشرق سوريا". الأمر الذي تقاطع مع تصريحات إردوغان في أول خطاب له بعد بدء العمليات التركية في شمال سوريا حيث قال في معرض حديثه عن مواقف الدول الأوروبية، إنه "إذا واصل الاتحاد الأوروبي وصفه لعملياتنا العسكرية بالاستعمارية فسنرسل إليهم اللاجئين"، مُتسائلاً: "هل قامت الدول الأوروبية باستضافة السوريين كما فعلنا؟".
انكسارات بالجملة تلقّاها الكورد من الدول الأوروبية وواشنطن، فالتصريحات السياسية المُندِّدة بالاعتداءات التركية، لم تُترجَم واقعاً يمنع تركيا من الاستمرار باعتداءاتها. تركيا نفَّذت هجومها العسكري على الشمال الشرقي من سوريا تجاه مناطق الكورد، بعد أن حصلت على الموافقة الضمنية من الولايات المتحدة.
وما انسحاب القوات الأميركية من الحدود السورية التركية سوى فتح الطريق للقوات التركية لتنفيذ أجنداتها العسكرية، وتزامن هذا الانسحاب مع إعلان ترامب عن إنهاء مهمّته في الشمال السوري. وهنا يحضر قوياً ما قاله مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة الدكتور بشّار الجعفري في وقتٍ سابقٍ: "التركي والأميركي يتفاوضان وكأنّ جزءاً من سوريا هو ملكٌ لهما وهما لا يملكان حق التفاوض". وهذا حقيقة ما دأبت عليه كِلا الدولتان الغازيتان للأراضي السورية الولايات المتحدة وتركيا، في محاولة كلّ دولة منهما أن تُحقّق لها مكسباً أو حلماً خطَّطت له منذ عقود، وشرعت تستغلّ الأوراق المُبعَثرة على الأرض السورية خلال الحرب عليها.
من المفيد أن نذكر، أنه حين انتهت الحرب العالمية الأولى، وانعقد مؤتمر الصلح الدولي في فرساي، استمع ذلك المؤتمر لمطالب الوفد الكوردي برئاسة الجنرال شريف باشا. فكان هذا الأمر داعياً لوضع بنود خاصة بالمسألة الكوردية في معاهدة سيفر سنة 1920، التي اشترطت في قسمها الثالث (البند 62، 63، 64) الحُكم الذاتي، وأخيراً الاستقلال في المناطق المكوَّنة من أكثريةٍ كوردية، بَيْدَ أن النهضة القومية التركية ومصطفى كمال أتاتورك، جعل هذه الشروط لاغية المفعول، حتى أنه لم يذكر عنها أيّ شيء في معاهدة لوزان سنة 1923.
مناسبة هذا الطرح، بأن الكورد قد عانوا من الارتهان للغرب. هذا الارتهان جلَبَ لهم الويلات. واليوم يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه. فالكورد الموزَّعون على طول الحدود التركية – السورية كانوا بالأمس تحت العباءة الأميركية، واليوم تهطل عليهم نيران المصالح الأميركية التركية، ليكمل إردوغان المسيرة ويمنعهم حتى من العَيش في وطنهم الأمّ سوريا.
في المُحصّلة يبدو أنّ الكباش السياسي الذي صوَّرته واشنطن وأنقرة لدى الرأي العام لجهة الاختلاف على الورقة الكوردية، يبدو أنه مُزيَّف، وأن المسألة هي اللعب في الوقت الضائِع، وأن الكورد السوريين وأميركا وتركيا يتماشون في نفس الخط الذي يحلمون به لتقسيم سوريا، كلّ حسب مصالحه، مع العِلم أنّ القيادة السورية حتى اللحظة لا تعتبر الكورد السوريين بجميعهم خارجين عن الدولة، ولكنها تعتبر كلاً من أميركا وتركيا غازيتين للأراضي السورية، ووجودهما غير شرعي، لذلك تبقى مسألة الحلّ للكورد السوريين في يدهم أولاً، وفي يد الدولة السورية التي تحتضنهم.