الخاشقجي.. الغرب المُنافِق والإعلام المُرتهِن
قبل الولوج في قضية اختفاء أوْ قتل الصحافيّ السعوديّ الـ”مُعارِض”، جمال خاشقجي، يجب التذكير بأنّ الواقِعة تفجرّت بالتزامن مع تصريحات الرئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب، الذي أهان وأذّلّ واحتقر العاهل السعوديّ، الملك سلمان، بعباراتٍ غيرُ معمولٍ بها وفق العرف الدبلوماسيّ، واستخدم رئيس أعظم دولة في العالم لغةً سوقيّةً شعبويّةً ضدّ الملك سلمان، حين طلب منه أنْ يدفع الإتاوة لأمريكا مُقابِل حمايتها للمملكة، ولم يتورّع ترامب، الذي أكّد للمرّة المليون، أنّه يكره كلّ ناطقٍ بالضاد ويمقُت كلّ مَنْ يقول لا إله إلّا الله محمد رسول الله، لم يتورّع عن التصرّف كرئيس عصابةٍ تُذكّرنا بالمافيا الإيطاليّة، والأخطر من ذلك، أنّ الردّ السعوديّ الرسميّ على هذا الازدراء والتحقير جاء باهتًا وخافتًا للغاية من قبل وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي قال في مُقابلةٍ مع وكالة (بلومبيرغ) الأمريكيّة إنّ بلاده تدفع ثمن السلاح الذي تشتريه من واشنطن، وهذا الردّ باعتقادنا المُتواضِع كشف النقاب مرّةً أخرى عن مدى تبعية المملكة السعوديّة لرأس الأفعى، أمريكا، التي تُشكّل رأس حربة الإرهاب العالميّ، عُلاوةً على ذلك، فإنّ الرئيس الأمريكيّ، المُتورِط في التحقيقات من أخمص قدميه حتى رأسه، أدلى بهذه الأقوال على الملأ في اجتماعٍ انتخابيٍّ بولاية فيرجينيا، أمام وسائل الإعلام على مُختلَف مشاربها، بهدف تحقير السعوديّة وحكّامها وابتزازهم فيما بعد، كما فعل العام الماضي عندما زار الرياض وحصل على غنيمةٍ، وصلت إلى 500 مليار دولار من الأموال التي يجب أنْ تكون من حقّ الشعب السعوديّ، الغارِق في البطالة والفقر.
***
وفي خضّم هذه الضجّة الإعلاميّة حول تصريحات ترامب، الذي تؤكّد عنجهيته وشعوره بالتفوّق مُقابِل دونية السعوديّة والعرب والمُسلِمين، تفجرّت قضية الصحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي، الذي دخل إلى قنصلية بلاده في إسطنبول التركيّة، ومنذ ذلك الحين اختفت أثاره، وهنا المكان وهذا الزمان للتنويه بأنّ خاشقجي، اختار اللجوء الطوعيّ لأمريكا، خشيةً من انتقام العائلة المالِكة في السعوديّة، التي تبنّت قولاً وفعلاً مبدأ: “مَنْ ليس معنا، فهو ضدّنا”، ولو بقي في المملكة، ينتقد بصورةٍ “وطنيّةٍ” النظام الحاكِم في الرياض، لكان زُجّ به في السجن، كما فعل آل سعود مع كلّ صوتٍ أسمع ولو جملةً تُعبّر عن مُعارضة السياسة التي ينتهجها وليّ العهد الـ”تقدّميّ”، إنْ كان على الصعيد الداخليّ أوْ الخارجيّ، ذلك أنّ كلمة الحُريّة لم تدخل حتى اللحظة إلى قاموس الرياض، ولا مؤشّراتٍ في الأفق تُدلّل على أنّها ستُصبِح مُفردةً معترفًا بها في مُعجَم المملكة السعوديّة، التي تُعتبر وبحقٍّ أنّها من أكثر الدول تخلّفًا وقمعًا واستبدادًا بالمُواطنين والمُواطنات على حدٍّ سواء، وهذه السياسة التي تحكم بالحديد والنار، بسبب خشيتها وتوجسّها من سقوط حكم آل سعود، لن تسمح بأيّ حالٍ من الأحوال أنْ تمنح الشعب حيّزًا ولو صغيرًا من الديمقراطيّة، بما في ذلك حريّة التعبير عن الرأي، ذلك أنّه كما قال القائِد، والمُعلّم والمُلهِم، الشهيد جمال عبد الناصر: “إنّ حريّة الكلمة هي المُقدّمة الأولى للديمقراطيّة”.
***
بناءً على ما تقدّم، ومع أننّا نرفض نظرية المؤامرة جملة وتفصيلاً، قولاً وفعلاً، إلّا أننّا نجد من المُناسِب التساؤل وبالصوت العالي وبالفم الملآن: لماذا اختفى أوْ أُخفيَ الجاشقجي في أوجِ هجوم ترامب على حُكّام السعوديّة؟ هل هذا نابعٌ فيما هو نابعٌ من أنّ آل سعود أرادوا عبر ذلك، صرف الأنظار عن إهانتهم من قبل الرئيس الأمريكيّ؟ ألاحظتم، أنّه منذ اندلاع أزمة الصحافيّ السعوديّ تحوّل الرأي العّام بـ180 درجةٍ، وبات يُركّز على مصيره غير المعروف حتى اللحظة؟ والسؤال الذي يُستنبط من ذلك: هل التدبير، إنْ كان قد تمّ، لاغتيال أوْ إخفاء الصحافيّ السعوديّ كان هدفه تقليل الضغط الذي تعرّضت له المملكة وحُكّامها من تصريحات ترامب الحاقِدة والابتزازيّة؟ ومن المُهّم الإشارة في هذه العُجالة إلى أنّ آل سعود، خلال فترة حكم الرئيس الأمريكيّ السابِق، باراك أوباما، كانوا يُهاجِمون سياسة واشنطن بشدّةٍ، وبرز هذا الأمر بقوّةٍ عندما توصّل أوباما والدول العظمى الأخرى إلى الاتفاق النوويّ مع إيران في العام 2015، إذْ كانت السعوديّة من أشّد المُعارِضين للاتفاق، طبعًا مع دولة الاحتلال، إسرائيل، وأطلقت العنان لإعلامها المُتطوِع لصالح هذه الأجندة لـ”تصفية الحسابات” مع أوباما، الذي فضّل الاتفاق النوويّ مع إيران، وهي من ألّد أعداء السعوديّة، وبالتالي يحّق لنا أنْ نسأل بموضوعيّةٍ وشفافيّةٍ: لماذا خشيت المملكة من الردّ على خزعبلات وترّهات الرئيس الأمريكيّ الحاليّ، الذي أذّل حُكّام الرياض، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ السعوديّة “تجرّأت” على انتقاد أوباما؟ هل تساوق المصالِح الإسرائيليّة-السعوديّة ضدّ الاتفاق النوويّ مع إيران منح السعوديين تأشيرة الهجوم المُضّاد على الرئيس الأمريكيّ السابق؟.
***
بالإضافة إلى ما ذُكر آنفًا، فإنّ الدول الغربيّة الـ”مُتحضرّة” وإعلامها الديمقراطيّ لم يرتقيا إلى مُستوى الحدث في قضية الخاشقجي، فعندما اتهمّت بريطانيا روسيا بتسميم الجاسوس سيرغي سكريبال، أقام الغرب الدنيا ولم يُقعِدُها، وقامت لندن بفرض عقوباتٍ على موسكو، وطردت العديد من الدبلوماسيين الروس بدون انتظار نتائج التحقيق، وانضمّت إليها أمريكا والعديد من الدول الغربيّة التي عملت على مدار الساعة لمُعاقبة روسيا وشيطنة نظام الحكم فيها، علمًا أنّ صنّاع القرار في موسكو، رفضوا الاتهامات المنسوبة إليهم جملةً وتفصيلاً، أمّا في قضية الخاشقجي، فقد اكتفت هذه الدول بإصدار بيانات شجبٍ واستنكارٍ لا تُساوي الحبر الذي كُتِبت فيه، مُشدّدّةً على أنّها تُتابٍع قضية اختفاء الصحافيّ السعوديّ عن كثبٍ، والتفسير الوحيد لهذا الكيل بمكيالين أنّ هذه الدول تتحدّث عن الديمقراطيّة، ولكنّها تؤكّد في الوقت عينه على أنّها تقتصر على مُواطنيها، أمّا بالنسبة لمصير إعلاميٍّ سعوديٍّ، فإنّ أجندتها مبنيةٌ على مُواصلة بيع الأسلحة للسعوديّة، التي تُعتبر من أكثر الدول اقتناءٍ للأسلحة الغربيّة، وعندما يدخل المال في القضيّة، فإنّ الحُريّات تُدفَن في مكانٍ ما، تمامًا كما حدث، على ما يبدو، مع الخاشقجي، ولا غضاضة بالتذكير بأنّ بريطانيا طالبت وحصلت على مُوافقةٍ لعقد جلسةٍ لمجلس الأمن الدوليّ لمُناقشة مُحاولة اغتيال الجاسوس الروسيّ السابِق، فهل الدّم العربيّ بات رخيصًا إلى هذا الحدّ؟ وهل بات الاتجار به مصدرًا كافيًا لـ”حلب” النظام السعوديّ وأنظمة الخليج الأخرى، التي تشتري الأسلحة بمئات مليارات الدولارات من الدول الغربيّة؟
***
وكلمة أخيرة للإعلام العربيّ المُرتهِن: صدّعتم رؤوسنا وأنتم تُنظّرون عن حريّات الشعب السوريّ خلال المؤامرة الكونيّة لتفتيت هذا البلد العربيّ، بربّكم وبدينكم، لماذا التزمتم الصمت المُطبق حيّال قضية الخاشقجي؟ هل لأنّ أقلامكم “مأجورةً”؟ فالحُريّة، سيّداتي وسادتي، لا تُقسّم، مصير الخاشقجي لم يدفعكم لإثارة الموضوع وبالبنط العريض، والسبب في ذلك، أنّكم تُغرّدون وفق أهواء المملكة السعوديّة، فكما يبتّز ترامب هذه المملكة، فإنّها تقوم بابتزازكم وترويضكم لنشر ما يُناسِب سياسات الملك ووليّ العهد، ومع إعلامٍ من هذا القبيل، نرى أنّه ليس من حقّنا أنْ نُطالِب الآخرين باحترامنا، لأننّا بصراحةٍ لا نحترِم أنفسنا، بل نُقدّس الدولار أوْ اليورو أوْ الاثنين معًا، هذه الأموال التي تدخل الجيوب مُقابِل مقالات النفاق، التزلّف، المُداهنة، الدجل والزندقة. وكلمة أخيرة: عندما نقول الإعلام المُرتهِن نعني ما نقول، ولكن هذا لا ينفي بأنّه ما زالت وسائل إعلام عربيّة، نعم عربيّة، تنشر بموضوعيّةٍ وبحرفيّةٍ.
d.h