المناظرات الرئاسية الأميركية.. مسرحية هزلية
اعتادت الولايات المتحدة الأميركية، أعواماً طويلة - وخصوصاً منذ أن خرجت من الحرب العالمية الثانية مصحوبة ببريقها وأضوائها - أن تبهر العالم وتخطف الأبصار والعقول لدى معظم شعوب العالم ودوله، سواء أكان ذلك بالسينما الهوليودية، أم بوسائل الإعلام والدعاية النافذة والمبتكرة، أم بالابتكارات التلفزيونية والصحافية.
وكان من ضمن وسائل الابتكار وخطف الأبصار نظام الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي تتكرر بانتظام كل عدة أعوام، مصحوبة بوميض الصور وضجيج الميكروفونات.
وروى الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل جانباً من هذا المشهد الجديد على الساحة العالمية في أثناء وجوده وتغطيته للانتخابات الأميركية في مطلع الخمسينيات عام 1952 من القرن الماضي، والتي كان يتصارع فيها المرشح عن الحزب الجمهوري الجنرال دوايت أيزنهاور في مواجهة المرشح عن الحزب الديموقراطي لاري ستيفنسون، وكيف أصبحت الصورة وخداع المكياج ذَوَي تأثير هائل في جمهور المشاهدين وجمهور الناخبين.
هكذا استمرت الولايات المتحدة عقوداً طويلة تمارس هذا التأثير – وأحياناً الخداع – ليس على الجمهور الأميركي فحسب، وإنما تعدتها إلى ساحات الشعوب والدول في معظم أنحاء العالم المتابعة بشكل أو بآخر لهذا المسرح الأميركي.
والحقيقة أن البريق والوميض الأميركيين هذين أخذا في الذبول والتأكّل، جولةً وراء جولة وعقداً بعد عقد، وكان آخرها تلك الجولة بين المرشحين لمنصب الرئاسة الجارية بين "الشيخين"، جو بايدن، عن الحزب الديموقراطي والذي يشغل فعلياً منصب الرئيس الراهن، ودونالد ترامب، عن الحزب الجمهوري، والذي سبق له أن شغل منصب الرئيس خلال الفترة 2018-2022.
والمتأمل والمراقب لهذه المناظرة، التي جرت بين الرجلين فجر يوم الجمعة الموافق 28 حزيران/يونيو 2024 يكتشف - منذ اللحظة الأولى - أننا أصبحنا أمام مسرحية هزلية، فيها من الكذب والادعاء أكثر مما فيها من الحقائق والمعلومات. صحيح أن التطاول الشخصي انخفض منسوبه كثيراً في هذه الجولة من المناظرات بين شخصين عُرف عنهما مقدار كبير من التطاول والتلاسن، اللذين قد يصلان إلى حد الشتائم والسباب (كما جرى بينهما منذ عدة أعوام، أو جرى بين دونالد ترامب والمرشحة الديموقراطية السابقة هيلاري كلينتون)، بيد أن كل هذا الضجيج الإعلامي، الذي تجيده الميديا الأميركية، خبا صوته، وفترت حماسته، وانزوى ضوؤه.
وهنا يُثار السؤال: لماذا حدث هذا التغير الكبير؟ وما الأسباب والعوامل التي جعلت شعوب العالم لا تهتمّ كثيراً، أو لا تنجذب إلى مثل هذا المشهد، الذي تحول بالفعل إلى مهاترات ومسرحية هزلية؟
نستطيع أن نرجع هذا التغير – والتدهور – إلى عدة أسباب متكاملة ومتداخلة، من بينها:
أولاً: إن حجم الشعبية التي كانت تحظى بها الولايات المتحدة (كمجتمع منتج ومبتكر، وكحياة سياسية وحزبية، وكشعارات لطالما رددتها وسائل إعلامه) ونجحت عقوداً طويلة في إدخالها – بصرف النظر عن مدى صدقها وثبوتها – في عقول مئات الملايين من البشر وقلوبهم، سواء أكانوا من المقيمين بدول الغرب الأوروبي، أم من شعوب الجنوب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لكنه تضاءل، عقداً بعد عقد، وعاماً وراء عام، ويوماً وراء يوم، فلم تعد هذه الشعوب، التي اكتوت بنار السياسات الاستعمارية الأميركية ومعاييرها المزدوجة، تصدق أو تناصر هذه الدولة وحكوماتها، بدءاً بمعظم شعوب أميركا اللاتينية التي اكتوت بمساندة الولايات المتحدة لكل النظم الاستبدادية والانقلابات العسكرية الدموية، مروراً بشعوب الشرق العربي الذي يحترق بسبب المأساة الفلسطينية، ووصولاً إلى شعوب جنوب شرق آسيا في فيتنام ولاوس وكمبوديا وكوريا، انتهاء بشعوب أفريقيا، تلك القارة التي تناوب عليها جميع أشكال الاستعمار الغربي، الذي مارس أشد وأقسى حروب الإبادة والعبودية (موزامبيق – ناميبيا – الكونغو – السودان – تونس –الجزائر – جنوب أفريقيا... إلخ).
ثانياً: بقدر ما تأكّلت الصدقية الأميركية لدى معظم شعوب العالم فإن ممثليها السياسيين، سواء في الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي، فقدوا صدقيتهم ووعودهم الانتخابية. وبتكرار هذه الظاهرة طوال الأعوام السبعين الأخيرة، فَقَدَ قطاع واسع من الجمهور الأميركي حماسته وانجذابه إلى المشاركة في هذه اللعبة الانتخابية. لذا، تضاءلت أعداد المشاركين في الحق والواجب الانتخابي مرة وراء مرة، وأخذت معها متابعة أغلبية شعوب العالم وحماستها، وخصوصاً في الجنوب. ويردد الجميع مقولات من قبيل "أحمد زي الشيخ أحمد"، وغيرها من مقولات الإحباط واليأس من التغير في السياسات الأميركية.
ثالثاً: كما أن شيخوخة الإمبراطورية الأميركية وبوادر أفولها وتدهورها، اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً، عكست نفسها في شيخوخة معظم المرشحين للانتخابات الرئاسية (وخصوصا في الأعوام العشرين الأخيرة)، وبينهم المرشحان الحاليان جو بادين ودونالد ترامب، اللذان تجاوز عمر أحدهما الثمانين ويكاد يقاربها عمر الآخر، فبدا الهزال وضعف المنطق وخفوت الصوت وشحوب الصورة بصورة واضحة ثثير لدى الجمهور والناخبين الإحساس بالشفقة أكثر من الإحساس بالوهج والحماسة والإلهام.
رابعاً: بقدر ما كان وحل الجرائم الأميركية في فيتنام والهند الصينية في منتصف الستينيات حتى منتصف السبعينيات أسقط القيم الأخلاقية والإنسانية التي ادعتها طوال عقود، وربما منذ حرب الاستقلال الأميركي (1777- 1789)، فإن المساندة والمشاركة المباشرتين من أميركا وبريطانيا في محرقة الإبادة الجارية وحربها في غزة طوال الشهور التسعة الماضية - والتي تنقل بالصوت والصورة لحظة بلحظة وثانية بثانية - بنتا حائطاً ضخماً وصلداً لدى شعوب العالم وأصحاب الضمائر الحية والشبان في الغرب والشرق ضد هذه الدولة الاستعمارية، فلم يعد الحلم الأميركي قادراً على محو تلك الصور المفزعة التي تأتي من غزة ومن فلسطين، أو يكون معادلاً بصرياً وأخلاقياً وسياسياً.
خامساً: إذا كان الحلم الأميركي American Dream والسفر والثراء في أميركا داعبت وخاتلت ملايين الشباب من دول الجنوب والغرب لعشرات الأعوام، فإن الجرائم الأميركية الدائمة والمستدامة والإفراط في فرض العقوبات على الدول والشعوب المناوئة أو حتى المعارضة لبعض أو كل السياسات الأميركية والغربية، وما جرّته على هذه الشعوب من مآسٍ، ومساندتها الدائمة والدائبة للحكومات والحكام الفاسدين والمستبدين في معظم دول العالم، أسقطت أوراق التوت التي ظلت تغطي عورات هذه المؤسسة الأميركية الحاكمة، عقوداً طويلة.
سادساً: مع تنامي النفوذين اليهودي والمسيحي الصهيوني وسيطرتهما على دوائر رسم السياسات وصنعها ودوائر اتخاذ القرارات داخل المؤسسة الحاكمة في هذه الدولة الإمبراطورية (البيت الأبيض – الخارجية – البنتاغون – أجهزة الاستخبارات والأمن، وفي مقدمتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية)، لم يعد يتباين كثيراً الرئيس القادم من الحزب الديموقراطي وجناحه الليبرالي عن الرئيس القادم من الحزب الجمهوري اليميني المحافظ والمحافظين الجدد، وخصوصاً في السياسات الخارجية، وبصورة أكثر تحديداً في السياسات الأميركية في منطقة الشرق العربي أو الأوسط: فلم يتباين جيمي كارتر الديموقراطي عن جورج بوش الأب، ولم يتباين بيل كلينتون عن جورج بوش الابن، ولم يتباين دونالد ترامب عن جو بايدن سوى في الشكل وليس في النوع (سواء في معاداة حركات التحرر والمقاومة العربية، أو في مساندة الكيان الإسرائيلي بصورة مطلقة إجرامية).
سابعاً: زاد الأمر صعوبة حينما تفكك الاتحاد السوفياتي المناصر لقضايانا العربية وقضايا الشعوب عام 1991، وانفردت الولايات المتحدة وحلف "الناتو" الأطلسي بالقرارات في العالم ومؤسساته الأممية، فانكشف زيف الدعاوى الغربية والأميركية بشأن شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، والقانون الدولي، فبدت كلها شعارات كاذبة وزائفة، وخصوصاً حينما تتعارض مع العدوانية الإسرائيلية والغربية. وكانت الأزمة العاصفة في أوكرانيا منذ عام 2022، والمحرقة الصهيونية في غزة، كاشفتين تماماً وبصورة نهائية عن طبيعة هذا الغرب، بصورة عامة، والعدوانية الأميركية بصفة خاصة.
ثامناً: الحقيقة أنه لم يبقَ من ظل شاحب لهذه المناظرات الرئاسية الأميركية سوى لدى بعض وسائل الإعلام الأميركية وبعض تلفزيونات عربية وغير عربية لم تعد تجد لها من طريقة لملء فراغ البث الإعلامي سوى تناول بعض تلك الحكايات والتنابذات الكلامية بين هذا المرشح وذاك.
هكذا، بعدت الصورة بعنفوانها وبريقها، ولم يبق منها سوى ظل باهت لدولة كانت يوماً حلما للكثيرين، وكانت وهماً للباحثين عن الحرية والديموقراطية، فإذا بها تسقط في وحل الأيديولوجية الصهيونية العنصرية، وتحترق راياتها في محرقة غزة وحرب أوكرانيا. ويبدو أنها علامات النهاية لإمبراطورية صعدت وعلى وشك الانهيار في أقل من مئة عام.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة