أزمة كورونا وتداعياتها المستقبلية على النّظام العالمي
تتزامن – بالمعنى التاريخي، وليس بمعنى التوقيت – مع أزمة/ كارثة كورونا مجموعة من التحولات والتغيرات والأزمات الدولية والإقليمية على أكثر من صعيد، هي:
1- السياق الاقتصادي.
2- السياق السياسي والتحالفات الدولية والإقليمية.
3- السياق العسكري والحروب.
4- السياق الصحي.
يعاني العالم كلّه منذ عدة عقود أزمات متعددة ومعقدة، وخصوصاً لدى النظام الرأسمالي العالمي بشقّيه المتقدم أو النامي، ويزداد تأثير ومخاطر هذه الأزمات عاماً بعد آخر، وأبرزها:
1- أدى التضخّم والتعملق المتزايد في قطاع الخدمات المالية في العالم عموماً (المصارف والبنوك والبورصات)، وفي الدول الرأسمالية الكبرى خصوصاً، على حساب قطاعات الإنتاج العيني أو السلعي (الزراعة – الصناعة – الكهرباء والطاقة – البناء والتشييد) الذي يمثل العمود الفقري لأيِّ اقتصاد منتج، إلى تكرار مزعج وقصير الأجل في عمل الدورات الاقتصادية (Business Cycles)، فأصبحت الأزمات الاقتصادية تتكرّر كلّ 10 أو 7 أو 5 سنوات، بدلاً من 15 أو 20 عاماً، وأحيانا أقلّ من ذلك، سواء على المستوى العالمي أو على المستوى الإقليمي أو على صعيد دول كبيرة الحجم (1929-1971-1973-1982-1987-1989-1994-1997-1999-2000-2001-2002-2003-2008).
2- يكفي أن نشير إلى حقيقة تقول: بينما كان حجم الأموال الموظفة والمستثمرة في الأسواق المالية العالمية في العام 1985 حوالى 85 مليار دولار يومياً (في صور شتى، مثل شراء الأسهم والسندات، والمضاربة على أسعار الصرف، وفي المشتقات المالية التي بدأت تتسع في ذلك الحين وغيرها)، فإن هذا الرقم أخذ في الزيادة يوماً بعد يوم، وأسبوعاً وراء أسبوع، وعاماً بعد آخر، حتى قارب عشية الأزمة العاصفة في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2008 حوالى 3 تريليون دولار يومياً (أكرر 3 آلاف مليار دولار يومياً)، في حين أنَّ الناتج المحلي الإجمالي العالمي للعام 2007 كلّه لم يزد على 48 تريليون دولار، كان نصيب الولايات المتحدة منها حوالى 13 أو 14 تريليون دولار فقط!
3- في العام 2018، عشيّة تفجّر كارثة فيروس كورونا، بينما كان الناتج المحلي العالمي يدور حول 85 تريليون دولار، فإنَّ حركة الأموال من خلال البورصات والبنوك كانت ما تزال تدور حول 3.0 تريليون دولار يومياً. ولولا الضربة المؤلمة التي تلقَّتها البنوك والبورصات في العام 2008، لازدادت حركة هذه الأموال عن هذا المعدل كثيراً.
4- والأخطر في هذا الميل المفرط في التداول المالي والمضاربة على العملات والسلع المستقبلية، أنّه اتخذ طابعاً احتيالياً (fraud)، وخصوصاً في الولايات المتحدة وبعض الدول النفطية (راجع كارثة سوق المناخ في الكويت في العام 1982 أو كوارث البورصات العالمية حالياً)، وبالتالي أحال الاقتصاد العالمي والبورصات العالمية إلى موائد قمار كبرى، على حدّ وصف الاقتصادي الأميركي البارز جوزيف ستيجللتز (j. steglltz)، أو كما قال المضارب الأكبر جورج سورس في وصفه الوضع الرأسمالي العالمي عشية انهيار الروبل الروسي في العامين 1998 و1999: "من الضروري إنقاذ الرأسمالية من الرأسماليين". هذا هو كعب أخيل في النظام الرأسمالي العالمي كلّه وموطن مقتله وانهياره في المستقبل المنظور.
5- أدى الخلل البنيوي بين دول المركز الرأسمالي المتقدم في الشمال ودول الأطراف في الجنوب إلى أكبر عملية نهب واستيلاء على الأصول والممتلكات العامة من الطرف الأول على الطرف الثاني، من خلال عمليات الخصخصة (Privatization) والدمج (Merges) والاستحواذ (Acquisitions)، سواء بإجبارها على اتباع هذه السياسات، أو بضغط مؤسسات التمويل والإقراض الدولية عليها، مثل صندوق النقد الدولي (MIF) والبنك الدولي (IB)، وتغيير النهج الاقتصادي، والتخلي عن التخطيط، وصولاً إلى ما يسمى اقتصاد السوق وآليات العرض والطلب، ما فاقم معدلات الفقر والحرمان، وأدى إلى توترات اجتماعية وسياسية عديدة في أكثر بلدان دول الجنوب.
6- صاحب اندلاع نار فيروس كورونا توسُّع الولايات المتحدة في انتهاج سياسة العقوبات الاقتصادية والحصار والمقاطعة بصورة وحشية وقاسية مع الكثير من الدول والحكومات المعارضة لسياساتها، والتي بدأت عملياً من الرئيس بوش الابن وطاقمه من المحافظين الجدد (2001-2008)، مروراً بالرئيس بارك أوباما (2009-2016)، ثم تصاعدت بصورة وحشية مع إدارة الرئيس العنصري رونالد ترامب (2017- 2020)، وامتدت هذه العقوبات من إيران وروسيا وفنزويلا، إلى نيكاراغوا وكوبا والعراق وسوريا وليبيا واليمن، انتهاء بالصين وغيرها. وقد كان لهذه السياسات الاقتصادية أضرار ومخاطر اقتصادية وإنسانية متنوعة ومتباينة.
7- جاءت كارثة كورونا الأخيرة، ولم يكن الاقتصاد العالمي عموماً، والأميركي خصوصاً، قد تعافى بعد من الأزمة الاقتصادية والمالية العاصفة التي وقعت في العام 2008، والتي بدأت شرارتها في البنوك والقطاع المالي، وامتدت إلى قطاعات الإنتاج والتشغيل.
8- تزامن مع ذلك صعود اقتصادي هائل للصين الشعبية خلال أقلّ من 40 عاماً، بحيث أصبحت في نهاية العام 2018 ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم من حيث الحجم، والأولى من حيث معدلات النمو في الناتج. وقد قدّرت مراكز الأبحاث والدراسات الاقتصادية في الولايات المتحدة وخارجها أن الصين، بهذا المعدل المنتظم، ستكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم بحلول العام 2035، ما يهدّد نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة وعملتها (الدولار) على المنظومة الاقتصادية الدولية (شبكة المصارف البنوك والدولار والقوة العسكرية).
9- بفعل هذه السياسات الاقتصادية العدوانية الأميركية، نشأت حروب تجارية واسعة النطاق بين الولايات المتحدة من جانب، وعدد من الدول المنافسة لها، مثل الصين وروسيا، من جانب آخر.
10- كما أدى خروج الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب من كثير من الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف التي وقعتها الإدارات السابقة، بدءاً من اتفاقية باريس للمناخ (باريس 2015)، واتفاقية "النافتا" بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، واتفاقيات الحد من إنتاج الصواريخ النووية القصيرة والمتوسطة المدى مع روسيا، انتهاء بالاتفاق النووي الإيراني (5+1 الموقع في العام 2015)، وإعادة فرض عقوبات اقتصادية قاسية من طرف واحد، وبمخالفةٍ للقوانين الدولية... إلى تعميق أزمة الثقة بين الأطراف الدولية والولايات المتحدة، وإيجاد شرخ ستعمّقه أزمة كورونا، كما سنرى.
11- ورغم أنَّ جهود كلٍّ من روسيا والصين لم تتوقف منذ عدة سنوات - وخصوصاً مع بداية استخدام الولايات المتحدة سياسة العقوبات ضد معارضيها - فإنَّ التوسع الأميركي في هذه السياسة والميل العدواني البارز في سياسة الرئيس دونالد ترامب منذ أن تولى الحكم في العام 2016 أديا إلى تسريع جهد الدولتين في إعادة صياغة مراكز القوى الاقتصادية والسياسية الدولية لترسيخ واقع عالم متعدد الأقطاب، وكان أبرزها:
أ- محاولة تقليص استخدام الدولار في معاملاتها التجارية الدولية، من خلال اتفاقيات دفع ثنائية أو متعددة الأطراف للتعامل بالعملات الوطنية.
ب- التوسع في تشكيل كتل اقتصادية مع استبعاد الولايات المتحدة، وكان أبرزها:
1-كتلة "البريكس" (BRICS) التي تضم 5 دول مهمة (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا).
2-مجموعة "شنغهاي" (تضمّ 8 دول في آسيا، وإيران كمراقب، والتي تحوّلت إلى عضو كامل في العام 2021، وآخرين).
3- مجموعة الدول الآسيوية (تضم 11 دولة من جمهوريات آسيا الوسطى) في 8 آذار/مارس 2018.
4- مجموعة الدول اليسارية المستقلة في أميركا اللاتينية (تضمّ كلّاً من كوبا وفنزويلا وبوليفيا والإكوادور ونيكاراغوا والأرجنتين وتشيلي والبرازيل). وقد نجحت الولايات المتحدة في تفكيك هذه المجموعة بعد صعود تيار اليمين إلى السلطة في بعض تلك الدول خلال الفترة الممتدة من العام 2016 حتى العام 2020.
ج- أدى الخروج الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني في أيار/مايو 2018، وبداية فرض عقوبات اقتصادية قاسية عليها، والضغط على الحلفاء الأوروبيين المشاركين في هذا الاتفاق للسير في النهج الأميركي المتشدد ضد إيران، إلى إحراج دول كبرى، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فتراوحت مواقفها بين المناورة وكسب الوقت وتنفيذ تعهداتها القانونية تجاه إيران، ما خلق شرخاً أخذ في الاتساع بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، وهو مرشح إلى التعمّق في المستقبل مع تكرار مثل تلك الأزمات الكبرى.
و- نجحت الصين في صياغة استراتيجية بناءة للتنمية والتعاون الاقتصادي مع دول العالم في العام 2013، أطلقت عليها اسم "استراتيجية الحزام والطريق" (One Bullet.. One Road)، فحققت تغلغلاً في أفريقيا بالعمل في 2500 مشروع في 51 دولة أفريقية، باستثمارات بلغت 94 مليار دولار حتى العام 2018، مقابل استراتيجية أميركية مدمّرة أطلقوا عليها اسم "الفوضى البناءة" (Constructive Chaos).
ه- ترتب على هذا الوضع السياسي والاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة تعميق التحالف الاستراتيجي الصيني – الروسي. على المستوى الاقتصادي، جرى في مؤتمر سانت بطرسبرغ في حزيران/يونيو 2019 توقيع 657 اتفاقية تعاون بين الصين وروسيا بقيمة 3.0 تريليون دولار لمدة 30 عاماً، كما بلغ التبادل التجاري بينهما في العام 2017 حوالى 87 مليار دولار، وهو ما زاد بعد القمة الروسية الصينيّة في شباط/فبراير 2022، وبعد توقيع اتفاقيات أعمق بين البلدين.
و- رغم الضغوط الأميركية الهائلة التي تنفذها إدارة الرئيس دونالد ترامب على شركائها الأوروبيين، وخصوصاً ألمانيا وتركيا، لوقف مدّ خط أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا، والاستعاضة عنه بالغاز الصخري الأميركي، فقد فشلت هذه الضغوط، وتم مد خط الغاز الروسي إلى دول البلطيق، ومنه إلى ألمانيا ووسط أوروبا (خط السيل الشمالي - 2 North Stream)، وكذلك تم الانتهاء من مد خط الغاز الروسي التركي في نهاية العام 2019، ومنه إلى اليونان وإيطاليا وبقية دول الجنوب الأوروبي.
من هنا، يمكن فهم الدور الأميركي والبريطاني في استفزاز روسيا من خلال التحرش الأوكراني، ومحاولات الدفع إلى جر روسيا إلى مواقف وقرارات ضد أوكرانيا، ما يستحضر الذريعة لوقف هذا الخطّ والاستعاضة عنه بالغاز من مصادر أخرى غير روسيا.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.