الإسلام والسياسة وبينهما مفاهيم مشتبهات!
سمعت، مؤخراً، في ندوة حوارية أحد المشاركين يُردد جملة "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة"، في إطار نقده للفكر السياسي الإسلامي المعاصر والعمل السياسي للحركات الإسلامية، الجملة نفسها سمعتها مرات عديدة في خطابات الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات في إطار صراعه مع جماعة الإخوان المسلمين، ولكنّه لم يتردد في استدعاء الدين لإضفاء الشرعية على عمل سياسي هو توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" مع الكيان الصهيوني...
ولم يكن السادات والأنظمة العربية الحاكمة وحدهم يُساهمون في شبهات العلاقة بين الإسلام والسياسة، فقد أجاد ذلك بعض الحركات الإسلامية، مثل: تحريم الانتخابات ثم تحليلها، وجواز الثورة في بلادٍ دون غيرها، ومهاجمة التطبيع الذي تقوم به أنظمة والسكوت عن غيرها.
هذه العلاقة الملتبسة بين الإسلام والسياسة أنتجت بعض المفاهيم المشتبهات التي باتت بحاجة إلى تصويب، منها: النظام السياسي، والخلافة الإسلامية، والدولة المدنية، والإسلام السياسي، وحاكمية الله.
مفهوم "النظام السياسي" في الإسلام ليس ديناً ثابتاً أو وحياً مقدساً لا يمكن تغييره، مثل العقيدة والشريعة والأخلاق؛ وإنما هو وضع بشري وإبداع إنساني، وإسلامية النظام السياسي نابعة من كفاءته في تحقيق المقاصد الإسلامية الثابتة، فهناك فرق بين النظام السياسي الإسلامي، وبين المرجعية التي يستند إليها، والمقاصد التي يسعى لتحقيقها، فالنظام السياسي يكون مدنياً بشرياً متغيراً ومتطوراً، والمرجعية هي القواعد الدينية والمبادئ السياسية التي يستند إليها، والمقاصد هي الرسالة والغايات التي يسعى النظام لتحقيقها، ومن أمثلة ذلك: الشورى كمبدأ يمكن أن يتحقق بنظام "أهل الحل والعقد" القديم، أو "النظام البرلماني" الحديث، والوحدة كمبدأ يمكن أن تتحقق بنظام "الخلافة الإسلامية" القديم، أو "النظام الفيدرالي" الحديث.
ومفهوم "الخلافة الإسلامية" هو نظام سياسي للحكم، ومؤسسة مدنية بشرية، أبدعتها الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتحقيق مقاصد الدين ومصالح الأمة الدنيوية والأخروية، وأهمها: تحقيق فريضة الوحدة الإسلامية، وتطبيق الإسلام في حياة الأمة، وأساس الخلافة البيعة التي تتم برضى الأمة، وهي عقد بين الحكام والمحكومين يلتزم به الحكام وعلى رأسهم "الخليفة" بأن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل والشورى والمساواة. ويلتزم المسلمون بالسمع والطاعة في المعروف.
وأي شكل للدولة الإسلامية يحقق هذه المبادئ يؤدي الغاية المقصودة من نظام الخلافة، أمّا التمسك بالشكل التقليدي النمطي لنظام الخلافة، وإعادة استنساخ الصورة التاريخية لها لإسقاطها على الواقع المعاصر فهما تشويه لنظام الخلافة الإسلامية، فنحن بحاجة إلى تصويب المفهوم ليتناسب مع واقع الأمة وروح العصر، مع المحافظة على مرجعيتها ومقاصدها ورسالتها الإسلامية.
ومفهوم "الدولة المدنية" ليس نقيضاً لمفهوم "الدولة الإسلامية"، ففي كليهما تكون السيادة للأمة، والشعب هو مصدر السلطات، بشرط أن تكون المرجعية للإسلام، ويكون الحكام فيهما نواباً عن الأمة والشعب في الحكم وليس عن الله تعالى، والأمة هي التي تختارهم وتراقبهم وتحاسبهم وقد تعزلهم إذا أخلّوا بشروط العقد. ومدنية الدولة الإسلامية تقوم على المؤسسات المحكومة بالقانون، والشورى هي آلية اتخاذ القرارات في جميع مؤسساتها، وتعتمد على التعددية السياسية والفكرية، والحرية الدينية والمذهبية في إطار ضوابط الدين، ولغير المسلمين كامل حقوق المواطنة، وعليهم كامل واجباتها، مثلهم في ذلك مثل المسلمين، كما نصت وثيقة المدينة "الصحيفة" في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) "لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين".
ومفهوم "الإسلام السياسي" أطلقه خصوم الحركات الإسلامية للإيحاء بأنَّ السياسة دخيلة على الإسلام وليست منه، فمن الطبيعي أن تسعى الحركات الإسلامية لأن يكون للإسلام دور في حياة الناس ويستعيد رسالته الحضارية انطلاقاً من الفهم الشمولي الحضاري للإسلام كمنهج حياة ونظام حكم، وهذا عمل سياسي مشروع ككل الحركات الأيديولوجية المختلفة التي تسعى للوصول إلى السلطة لتطبيق نظريتها السياسية.
فالإسلام بدون فكر سياسي ينبثق منه عمل سياسي يسعى نحو تغيير واقع الناس ليكون منسجماً مع الإسلام غير موجود إلاَّ في عقول من يريد إبعاد الإسلام عن حركة الحياة وتيار الحضارة ومسار التاريخ، وإذا كانت هناك مشكلة في "الإسلام السياسي" فهي في الفكر السياسي المنحرف والعمل السياسي الخطأ، الذي تكون نتيجته إما دفع المسلمين للتطرف تكفيراً وتقتيلاً، أو عدم دفعهم للثورة على الاحتلال والاستبداد والاستغلال، والظلم والفساد والتطرف.
ومفهوم "حاكمية الله" كمدخلٍ للتكفير والتقتيل، بدأ منذ أن رفع الخوارج شعار "لا حكم إلاّ الله" في وجه الخليفة الشرعي للأمة الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، والمشكلة في المفهوم ما زالت قائمة، لخّصها الإمام علي بقوله: "كلمة حق يُراد بها باطل"، والحق يكمن في صوابية مضمونها (مرجعية الإسلام للحكم)، أمّا الباطل فيكمن في الفكر والتطبيق، ويتجسد في الخلط بين حكم الله واجتهاد البشر، واعتبار اجتهاد الجماعة هو حكم الله ومن يخرج عنه يُحكم عليه بالكفر ويستحق القتل، والخلط بين: حاكمية الله المستمدة من القرآن والسُنّة كمرجعية، وسيادة الأمة متمثلة في اختيار نظام حكمها وحكامها، فحاكمية الله لا تصادر سيادة الأمة ولا سلطة الحاكم وفق مرجعية حاكمية الله.
السياسة في الإسلام تعني ببساطة أن يُمارس المسلمون حياتهم الجماعية وفق التصور الإسلامي للحياة، وهو تصور أكثر شمولاً وسعةً وعُمقاً من شعار (تطبيق الشريعة الإسلامية) الذي يرفعه بعض الحركات الإسلامية، وفهم المسلمين للإسلام وفق هذا التصور الحضاري الوسطي الثوري يُعطيهم قوةً في الوعي والإرادة والعمل، تجعلهم يمتلكون زمام أمرهم ومصيرهم، ويُمارسون جوهر إنسانيتهم وسيادتهم، متمثلاً في اختيار نمط حياتهم وحكامهم ونظمهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها... بطريقة منسجمة مع فطرتهم وعقيدتهم ومصلحتهم، وتكسبهم مناعةً ضد القابلية للاستعمار والاستحمار، وتُعطيهم حصانة ضد الرضى بالاستخفاف والعبودية.
وبذلك نضمن ألا تكون السياسة هي مشكلة الدين، وألا يكون الدين هو ألعوبة السياسة، ليظل الدين ضابطاً للسياسة وموجّهاً للسياسيين، بما يخدم مصلحة الشعب والأمة.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.