الثورة الفلسطينية والصراعات العربية.. اليمن نموذجاً
منذ نشأة منظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني للشعب الفلسطيني يقود ثورته المعاصرة نحو التحرير والعودة والاستقلال،
كان السؤال العربي حاضراً في الفكر السياسي لفصائل الثورة الفلسطينية، وكان السؤال يدور حول علاقة الثورة الفلسطينية بمحيطها العربي وما يحدث فيه من صراعات داخل الدولة الواحدة وبين الدول المختلفة، وبالتحديد تركّز السؤال في خيارين: هل من مصلحة الثورة الفلسطينية اتخاذ موقف الانحياز لصالح طرف معين بحسب قربه من فلسطين وبعده عنها؟ أو اتخاذ موقف الحياد أمام كل الأطراف مهما كان موقفهم قريباً من فلسطين أو بعيداً عنها؟ وكان الجدل خاصاً بفصائل المنظمة؛ وعندما نشأت حركتا الجهاد الإسلامي وحماس، أصبحتا جزءاً من هذا الجدل المتواصل بشأن علاقة الثورة الفلسطينية بالصراعات العربية، وآخرها الصراع اليمني الداخلي والصراع اليمني - السعودي الإماراتي.
الميثاق الوطني الفلسطيني تناول ذلك الجدل في المادة (27)، فنص على: "تتعاون منظمة التحرير الفلسطينية مع جميع الدول العربية كل حسب إمكانياتها، وتلتزم الحياد في ما بينها في ضوء مستلزمات معركة التحرير، وعلى أساس ذلك لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأيّ دولة عربية". وتبنّت حركة فتح في نظامها الداخلي موقف الحياد نفسه في المادة (26)، فنصّت على أنّ: "حركة فتح لا تتدخل في الشؤون المحلية للدول العربية، ولا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها أو بعرقلة كفاح الشعب الفلسطيني لتحرير وطنه". وحركات اليسار الفلسطيني اتخذت موقفاً مرناً يربط بين النضال الوطني والقومي والطبقي، واعتبرت المعركة واحدة ضد الصهيونية والإمبريالية والرجعية. أما حركة حماس فنصّت وثيقتها السياسية على أنها: "ترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كما ترفض الدخول في النزاعات والصراعات بينها"، فكانت بذلك تتبنّى موقف الحياد كما المنظمة.
أما حركة الجهاد الإسلامي فكان لها موقف متميّز في وثيقتها السياسية. وجاء في الوثيقة السياسية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين تحت عنوان (الأمة العربية والإسلامية) النص التالي: "تحرص الحركة على الانفتاح على مختلف بلدان أمتنا العربية والإسلامية، وإقامة علاقات إيجابية مع الجميع، لنصرة وخدمة قضيتنا وشعبنا، ويتحدد موقف الحركة من هذا الطرف أو ذاك بناءً على موقفه من قضية فلسطين ومستوى دعمه المادي والمعنوي لها، وأقله دعم وإسناد صمود شعبنا وثباته على أرضه وحقه في المقاومة للدفاع عن نفسه وأرضه ومقدساته في مواجهة العدوان الصهيوني المستمر".
وكانت أخطر مرحلة في تاريخ الحركة أثناء (ثورات الربيع العربي)، وتلخّص موقف الحركة في جزء من خطاب الأمين العام السابق الراحل الدكتور رمضان شلّح في ذكرى الانطلاقة الجهادية عام 2016 بقوله: "لقد كان موقفنا منذ بداية الحريق المشتعل في المنطقة هو عدم الزج بفلسطين وقضيتها في المحاور والصراعات التي تعصف بالأمة، وأن فلسطين التي اعتبرها العرب يوماً القضية المركزية للأمة هي القادرة دوماً على تصويب البوصلة وإخراج الأمة من هذا الطوفان الذي قد لا ينجو منه أحد".
حافظت حركة الجهاد الإسلامي على حيادها أثناء (ثورات الربيع العربي)، واجتهدت بنجاح لئلا يصل الحريق الى فلسطين من بابها، بينما ظلت نصوص الحياد وعدم التدخل والنأي بالنفس في وثائق كثير من فصائل الثورة الفلسطينية حبراً على ورق، أو تمّ تطبيقها بشكل انتقائي على الصراعات العربية في البلد الواحد وبين البلدان المختلفة، وعلى أساس المصالح الحزبية حيناً والانتماءات الفكرية والتنظيمية أحياناً.
وبعيداً عن التنظير والتبرير، أو الحق والباطل، أو الصواب والخطأ، فقد تورّطت الثورة الفلسطينية أو أحد فصائلها في صراعات دموية وخلافات سياسية عديدة في الدول العربية وبينها، ومنها: الصراع الدموي مع النظام الأردني المعروف بأيلول الأسود عام 1970م، والحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م، وتأييد الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990م، والانحياز للإخوان المسلمين في مصر عام 2013م، والاصطفاف مع المعارضة السورية المسلحة عام 2012م، وتأييد أحد أطراف الصراع في اليمن تحت مبرّر دعم (الشرعية السياسية) المدعومة سعودياً وأميركياً... وغيرها من المواقف التي كانت لها ارتدادات كارثية على الشعب الفلسطيني.
واليمن كآخر هذه النماذج لعلاقة الثورة الفلسطينية بالصراعات العربية، تبنّى كثير من الفصائل الفلسطينية الموقف الرسمي العربي بدعم (الشرعية السياسية) ممثلة بالرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي والتحالف اليمني معه، ضد حركة أنصار الله المعروفة في الإعلام العربي بـ (جماعة الحوثي)، نسبة إلى زعيمها السيد عبدالملك الحوثي وعائلته، بينما التزمت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الصمت باعتباره صراعاً يمنياً داخلياً تدعو إلى حله بالحوار الوطني على أساس القواسم اليمنية والعربية والإسلامية المشتركة والمصالح المشتركة للشعب اليمني للخروج من مأزق اليمن... وعندما تحوّل الصراع اليمني الداخلي إلى صراع إقليمي، بعدما أنشأت السعودية تحالفاً عربياً بدعم أميركي لدعم ما سمّته (الشرعية)، تغيّرت المعايير الضابطة للموقف من الصراع. فمع الوقت، واستمرار الحصار والقصف والمذابح ضد المدنيين، لم يعد لحرب التحالف السعودي على اليمن سوى اسم العدوان، خاصة بعدما انسحب من التحالف الجميع، ما عدا النظامين السعودي والإماراتي اللذين يقودان في الوقت نفسه عملية التطبيع والتحالف العربي مع "إسرائيل".
عند ذلك الحد من الحرب على اليمن والعدوان العسكري، ولا سيما بعد مذبحتي صعدة والحُديدة الأخيرتين، لم يعُد للصمت معنى سوى المشاركة في الجريمة المتواصلة ضد الشعب اليمني المظلوم، وكان الوقوف ضد الحرب العبثية المجنونة واجباً أخلاقياً، والانحياز الى المظلومين اليمنيين فريضة دينية، والتضامن مع الطرف الأقرب الى فلسطين مطلوباً وطنياً... فهذه صنعاء التي تخرج عن بكرة أبيها تضامناً مع شعبنا ومظلوميته، وآخرها بعد معركة سيف القدس حين قدّم اليمنيون قوت أبنائهم لفلسطين والمقاومة، ووقوفهم إلى جانب المعتقلين الفلسطينيين في السعودية.
وفي هذا السياق جاءت مسيرة اليمن في غزة وشعاراتها المركزية: أوقفوا الحرب على اليمن، لا للحرب على اليمن، نعم لوحدة اليمن واستقرار أرضه وأمن شعبه، اليمن مكوّن حضاري أصيل وتدميره يخدم الأعداء... واجتهد بعض المشاركين في المسيرة برفع صور رموز محور المقاومة ضد الاستعمار الأميركي والاحتلال الإسرائيلي، لتأكيد أنّ صراعنا هو مع العدو الصهيوني، العدوّ الحقيقي للأمّة، الذي يقف في مواجهته محور المقاومة وقادته الذين رُفعت صورهم؛ فرسالة المسيرة واضحة ضد الحرب على اليمن المتواصلة منذ سبع سنوات من التحالف السعودي الإماراتي، وحفظ الأرواح وحقن الدماء وتوفير الأموال وتوجيه طاقات العرب من إعلام وسلاح وأموال لخدمة قضايا الأمة الحقيقية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية.
هذه هي رسالة مسيرة اليمن الداعية إلى وقف الحرب العبثية، وما دون ذلك من رسائل ومضامين حزبية وسياسية حُمّلت للمسيرة، غير موجود إلّا في أوهام فكر مذهبيّ متعصّب، مجرّد أداة لإشعال الفتنة لصالح أعداء الأمة، أو ظنون فكر حزبي متطرّف، أو ترّهات فكر سياسي متحذلق... فالمسيرة والحركة والشعب مع اليمن ضدّ العدوان والإرهاب؛ ومع اليمن ضد التجزئة والانقسام، ومع اليمن ضد الإهانة والإذلال.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.