متى تغرق "التايتانيك" الإسرائيلية؟
لم يشأ قائد "منظومة الدفاع الجويّ" الإسرائيلي، جلعاد بيران، أن يجيب عن كلّ الأسئلة في حواره الأخير مع موقع "والاه" الإسرائيلي. مع ذلك، ما كَشَفَه يُعَدّ واضح الدلالات على التغيّرات التي طرأت على صورة المواجهة مع "إسرائيل" في السنوات الأخيرة. وضوح سبق أن كرَّسته ميدانياً، وجَلَّته عملياً، معركةُ "سيف القدس"، في مختلف أبعادها العسكرية والأمنية والإعلامية، ولاسيما على مستوى الردع وموازين القوى بين أطراف الصراع، بالإضافة إلى انعكاساتها الذهنية على الوعي الجَمْعي لدى "الجمهور الإسرائيلي" من جهة، ولدى جمهور محور المقاومة في الجهة المقابلة.
تُعَدّ مسألة الأمن من المسائل الحيوية في استمرار الكيان وديمومته. من دون الأمن، يصعب تشجيع اليهود على الهجرة من بقاع الأرض إلى فلسطين المحتلة، ويتعذّر بالتالي ترسيخ الاستيطان وفرضه عن طريق قضم مزيد من الأراضي في فلسطين.
يبرز، على هذا الصعيد، أهم الفروق النفسية بين الشخصية الإسرائيلية وشخصية أصحاب الأرض وأبناء المنطقة، وتحديداً في ما يتعلّق بالاستعداد للتضحية وإرادة القتال.
يتَّضح، من خلال عدد من التقارير المنشورة في الصِّحافة العبرية، وجودُ حالة من التفسُّخ والتَّأَكُّل، اللذين نَمَوَا بالتدريج في "الجيش" الإسرائيلي، المؤسسة التي أقيمت عليها "دولة" وأوكلت إليها مسألة الأمن. بالتوازي نمت بصورة عكسية مضطردة قناعة لدى محور المقاومة وشعوبه بحتمية الانتصار، قابلها اهتزاز الثقة لدى الجمهور الإسرائيلي بلغت عند نخبه حد استشراف نهاية مشروعه الاستعماري.
المجازر التي رافقت اغتصاب فلسطين عام 1948 وتواطؤ النُّخَب العربية الحاكمة، والتي أدّت إلى انتصارات "إسرائيل" منذ ما قبل النكبة، مروراً بحرب 1967، سمحت لدولة الاحتلال بترويج أساطير وزرعها في العقل الإسرائيلي، وفي العقل العربي أيضاً. من ذلك قدرتها الحاسمة والنهائية على الانتصار، حتى لو كانت تخوض حرباً في جبهات متعدِّدة، بالإضافة إلى قدرتها على تنفيذ استراتيجية نقل المعركة إلى أرض العدو.. ذلك كله بات من الماضي.
من الواضح أن معركة "سيف القدس" شكّلت مصداقاً جديداً على انقلاب الصورة، وتغيُّر المعادلة، وتَأَكُّل الأساطير الإسرائيلية التي تغذّي وَهْمَ التفوّق والردع. عجز الاحتلال عن الرد على عملية قتل الجندي الإسرائيلي عند حدود غزة من المسافة صفر أكد المؤكد، قبل أن تطفو على السطح انتقادات قاسية طالت "جيش" الاحتلال الذي لطالما حظي باحترام جمهوره وتم تحييده عن النقد.
لم تستطع "إسرائيل" إخفاء إخفاقاتها في المعركة الأخيرة، فحاولت التخفيف من وطأتها. آخر الأساطير التي أحرقتها صواريخ غزة، كانت منظومة "القبّة الحديدية"، باعتبارها المظلّة الآمنة والحلَّ الإبداعي اللَّذين يحميان "إسرائيل" ومستوطنيها.
في موازاة ذلك، ومع تعاقب أجيال المستوطنين الإسرائيليين، كان وهج "الجيش الذي لا يُقهَر" يخفت في عيون "مواطنيه"، مع ما يمثّله ذلك من شروخ خطيرة في المشروع الصهيوني (الجيش عموده الفقري)، كان من أبرز تجلِّياته توسُّعُ ظاهرة العزوف عن الانضمام إلى "جيش" الاحتلال، وعن الالتحاق بالخدمة العسكرية.
لم يُشِر قائد "منظومة الدفاع الجوي" الإسرائيلي، في مقابلته الأخيرة، إلى كل هذه التفاصيل، لكنه لامس جوهر القضية بطريقة غير مباشِرة، حينما أوضح أنّ المستوطنين الإسرائيليين "ليسوا مستعدّين لتحمُّل الخسائر الناتجة من قصف الصواريخ".
توجَّه جلعاد بيران إلى "الجمهور الإسرائيلي" بالقول إنّه "لو حدث قتال في الساحة الشمالية، فسيكون هناك أيضاً ضرر للجبهة الداخلية، والردّ الأوليّ والمهم هو أن نكون منضبطين للغاية"، مشيراً إلى احتمال أن "تكون هناك تعليمات لم نرَها في السابق"، مفضِّلاً عَدَمَ الخوض في تفاصيل هذه المسألة، لأسباب حساسة، على حدّ تعبيره. أمّا الرسالة بالغة الأهمية، والتي وجَّهها إلى جمهوره، ففحواها أن "القبّة الحديدية" لن تتمكَّن من معالجة جميع التهديدات، وأن بعض هذه التهديدات "سيظلّ يخترق ويضرب" العمق الإسرائيلي، مؤكداً أن الجبهة الداخلية ستتضرّر في حال وقوع حرب جديدة مع لبنان.
طبعاً، هذا الكلام ليس جديداً في "إسرائيل"، إذ سبق أن أشار إليه عدد من الخبراء والمحلّلين والمسؤولين السابقين، لكنّ أهميته تكمن في أنه صادر عن شخصية رسمية ورفيعة المستوى.
مفوَّض شكاوى الجنود السابق، اللواء احتياط إسحاق بريك، كان تطرّق إلى ما هو أخطر من ذلك، واختصر الصورة في عبارة بليغة قائلاً إن "شعب إسرائيل يعيش على متن التايتانيك".
تزداد المؤشِّرات، يوماً بعد يوم، على التفسُّخ الذي يعتَري المشروع الصهيوني. حالة الوَهْن هذه هي على الأرجح السبب الذي يقف وراء تزايد الانتقادات والهجرة الفكرية العكسية، والتي باتت تستشرف زوال "إسرائيل".
آخر الكلام، الذي يَصُبّ في هذا الإطار، صدر عن يعقوب شاريت (٩٥ عاماً)، في حديث مطوَّل إلى ملحق صحيفة "هآرتس"، قال فيه إن "الدولة اليهودية إجرامية.. وُلدت بالخطيئة، ومستقبلها أسود".
تصريحات تتعزز دلالاتها في كونها صادرة عن سليل عائلة تُعَدّ من لُبّ الحركة الصهيونية. فشاريت هو ابن أول وزير خارجية وثاني رئيس وزراء لـ"إسرائيل" (والده موشيه شاريت)، وسبق أن خدم في جهاز "الشين بيت". وهو يقول إنه أصبح مناهضاً للصهيونية، ويشجّع الناس على مغادرة البلاد.
لا تتبنى لااشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.