غزوة الكونغرس.. أميركا لن تعود كما كانت
وقف العالم مدهوشاً ليلة السادس من كانون الثاني/يناير 2021. فركت شعوب الأرض عيونها مرّات. السوابق التي سجّلها دونالد ترامب خلال ولايته لم يسبقه إليها أي رئيس أميركي، لكن أن تُسجل سابقة اقتحام مبنى الكابيتول، فهذا أمر آخر. سوابق تستحق بكل حال، وعن جدارة، أن تُسجل في موسوعة "غينيس". ماذا حلّ بأميركا؟ هل استوفت إمبراطورية "اليانكي" عمرها المديد في حساب سنن الأمم وقوانين التاريخ؟ بات السؤال مشروعاً تحت سطوة الحدث والمشاهد المعروضة مباشرة على مرأى من العالم. قبل ذلك التاريخ، كان السؤال ليكون محط تندّر واستخفاف، ربما، مع من لا يوافقك الرأي.
لم يعد السؤال مستغرباً، بل ثمة ما يحثّ عليه. "نهاية التاريخ" التي نظّر لها فوكوياما لم تعد حتمية. قوة الواقع تخطّت واقع القوة. السيطرة والهيمنة المؤبّدة اللتان أفرد لهما فوكاياما أطروحة كاملة تترنحان منذ مدة، لكن منظومة البروباغندا الأميركية البارعة كانت ما تزال تعمل.
الثابت أن وجه أميركا بدأ يتغيّر منذ 25 أيار/مايو 2020. مفارقة أن نرى كل هذه التحوّلات في غضون سبعة أشهر فقط. إنها الصورة. إحدى أدوات الهيمنة تعرضت للضرر. أراد جورج فلويد أن يتنفّس. قضى مختنقاً تحت وطأة العنصرية. بضع كلمات بالكاد خرجت مع أنفاسه المتبقية، لكنّ صداها صمّ آذان المعمورة وراحت تردد وراءه: أميركا، نريد أن نتنفّس.
هل بدأت القصة منذ حادثة جورج فلويد أم تعود إلى سنوات خلت منذ أن اعتلى رجل العقارات الآتي من برامج تلفزيون الواقع عرش الإمبراطورية الأقوى على وجه الأرض؟
ثمة من يعيد القصة إلى إرهاصات بدأت مع السياسات النيوليبرالية، وإلى تحولات ديموغرافية في الداخل الأميركي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. هُجرت المصانع وانتقلت الشركات إلى شرق آسيا طمعاً بربح أكثر. في تلك المنطقة من العالم، وجد أصحاب رؤوس الأموال كلفة إنتاج متدنية ويداً عاملة زهيدة. تراجع الدخل داخل أميركا، وتزايد العاطلون من العمل. تعمّقت اللامساواة وتراكم غضب الرجل الأبيض؛ وريث المستعمرين الأوائل. ذلك لن ينتهي قريباً.
الديموقراطية الليبرالية أداة أخرى من أدوات الهيمنة الأميركية. الأربعاء الماضي، سقطت من داخل القلعة، والقلاع لا تُؤخذ إلا من الداخل.
لم يصدّق العالم، كأن مسلسل الأحداث الذي اندلع منذ مقتل جورج فلويد في كفة، وما حصل خلال غزو مبنى الكونغرس في كفة أخرى. هذا معقل "الديموقراطية" الأميركية يُهاجم. "ديموقراطية" أراد أن يصدرها باراك أوباما، واعتزم وريثه جو بايدن أن يقيم لها احتفالاً ويعيدها من جديد واجهة لسياسته الخارجية كما أعلن. بدت هذه "الديموقراطية" باهتة مصفرّة كأوراق صحيفة مرّ عليها الزمن. صارت خطاباً محرجاً يستدعي من العقل الأميركي أن يبتدع حيلاً أخرى للتصدير.
قادة العالم في حالة صدمة وذهول. حتى الحليف الإسرائيلي لم يستطع أن يبقى صامتاً. وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس قال: "لم أصدق أنني سأرى صوراً كهذه في الديموقراطية الأقوى في العالم". الأمين العام لحلف الأطلسي عبّر عن "مشاهد صادمة في واشنطن". جورج بوش الابن تحدث عن مظاهر تليق بـ"جمهوريات الموز، وليس بجمهوريتنا الديموقراطية".
كتبت "وول ستريت جورنال": "لم يحدث أبداً في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأميركية أن هزت أحداث فترة 24 ساعة الرئاستين، ومبنى الكابيتول، والأمة نفسها، كما جرى الأربعاء". كاتب المقال رأى أن آثار ذلك ستستمرّ لسنوات مقبلة، وستترك العواقب الكاملة للمؤرخين لتحليلها.
تصريحات الحلفاء الأوروبيين والغربيين عكست قلقاً واضحاً. ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا نددت بطريقة أو بأخرى. القيم التي قامت عليها أنظمتها السياسية تتآكل وتتضرر.
في معقل الديموقراطية الغربية، انتقال السلطة لم يعد سلمياً بالضرورة من الآن وصاعداً. العنف السياسي لم يعد محصوراً خارج أسوار الديموقراطية الغربية المزهوة والمهيمنة. هذا يخيف أوروبا المرتبطة عضوياً بصلة قرابة مع أميركا.
عندما اعتلى ترامب عرش بلاد العم سام، انتعش اليمين في أوروبا بعد أن صعد في أميركا. عادت الفاشية بثوب جديد في "محور الحلفاء". ما يحدث على إحدى ضفاف الأطلسي لا يقف عند حدود الماء والمحيط. أوروبا الملحقة بأميركا أكثر من أي وقت أضعف من أن تتقاسم مقدرات العالم مع حليفتها في ما لو ضعفت القاطرة الرأسمالية الأميركية. ما يصيب أميركا يصيب أوروبا.
باتت الإمبراطورية الأميركية مأزومة على مستويين: من الداخل ومن الخارج. أدوات الهيمنة تتآكل. خارج القارة الأميركية، ثمة عالم متغيّر ومتسارع باتجاه التعددية القطبية. في الداخل، مجتمع منقسم طبقياً وعرقياً وثقافياً وهوياتياً. انقسام عمودي وأفقي يتمظهر بشكل غير مسبوق في تاريخ أميركا الحديث. لذا، من الصعب على أميركا أن تطوي صفحة وتفتح صفحة جديدة. خرج المارد من القمقم، وسينتظر العالم ليرى إذا كانت الولايات الأميركية ستبقى متحدة.
هناك 74 مليون أميركي لم يعطوا بايدن الثقة. فارق الستة ملايين صوت يؤهله للفوز وفق معايير اللعبة "الديموقراطية"، لكنه لا يؤهل أميركا بالضرورة للفوز بقيادة العالم.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً