"سيف القدس" أصدق أنباء من الكتب.. نهاية الصهيونيَّة
إنَّها حرب لا تشبه الحروب والمعارك السابقة، سواء تلك التي جرت بين الجيوش العربية والكيان الإسرائيلي أو تلك التي وقعت بينه وبين الشعب الفلسطيني وفصائله القتاليَّة المناضلة. ببساطة، هذه المواجهة الملحمية الدائرة حالياً تحت سماء فلسطين أضحت منازعة إيديولوجية بين الشعب الفلسطيني بكلّ تاريخه وقيمه ومعتقداته وبين العقيدة الصهيونية.
إنّ المعطيات التي تمخَّضت عنها المواجهة حتى الآن بيَّنت أن الضربات المتبادلة تستهدف الأسس والركائز العقائدية والقيمية. الضربات الفلسطينيَّة استهدفت ما كان يُعتقد أنه مسلمات وثوابت وركائز لبقاء "الدولة" والكيان و"المجتمع"، والضربات الإسرائيلية نبشت الأرض، فأظهرت الفلسطيني محلّقاً كطائر السمندر، لا يضمحل ولا يذوب، كما كانت غولدا مائير تتمنى.
بدأ الفلسطينيّ ينظر إلى السماء برقبة شامخة، ويحدق بمديات الصواريخ، بعد أن كان يعيش مرحلة التحديق بالأرض والتقاط الحجارة. هذا التحوّل في سلوك الفلسطينيّ ومنهجه يعني سقوط استراتيجيات سياسية وعسكرية وأمنية وثقافية جرى الاشتغال عليها منذ 73 عاماً وهزيمتها، وغايتها تمييع الشعب الفلسطيني وسلخه عن الانتماء إلى الأرض والتاريخ.
إنَّ خروج آلاف المستوطنين من منازلهم، والهجوم على كلّ ما هو غير يهودي، واستهداف المواطنين الفلسطينيين في المناطق المغتصبة، يشي بأنّ هذا التجمّع من المستوطنين لم يعد يثق بالكيان و"الدولة"، فضلاً عن عدم ثقته بـ"الجيش" والمؤسسة الأمنية.
لقد تبلور اعتقاد لدى المستوطن بتراجع مشروع "الدولة" بعد تضعضع ركائز المؤسَّسة الصهيونية، وهي لم تنضج وتترسّخ فحسب، إنَّما فشلت أيضاً في تدعيم أسوار الدولة وأطرها، وأظهرت فشلها في تأسيس كيان مجتمعي يقوم على وثيقة التعاقد الاجتماعي وكفالة النظام السياسيّ.
هجمات المستوطنين العنفية والإرهابية، وتمرّدهم على "الدولة" والقانون والمنظومة القيمية، واستهداف المواطنين العرب المسلمين، مؤشر واضح على شعور حقيقيّ بأنّهم باتوا أقرب إلى النهاية، أو بالأحرى أن الضربات النوعية قرَّبت النهاية، وأنَّ وصول صواريخ المقاومين الفلسطينيين إلى نقاط الخوف والقلق في مجتمع المستوطنين يعني فشل كلّ هذا التراكم من التسليح والمنظومات العسكرية والأمنية التي كلَّفت أكثر من نصف تريليون دولار منذ تأسيس الكيان وحتى الآن.
إن تصريح أفيغدور ليبرلمان: "نتنياهو يعرّضنا للهلاك"، لم يكن مجرد مناكفة سياسية بقدر ما هو تعبير واقعي عن خطر داهم، وإشارة إلى أن أسس البقاء باتت مهددة. أهمية هذا الإعلان تأتي من أن مشاعر "الهلاك" ترافقت مع حدثين؛ الأول هو الذكرى الـ73 لإعلان "دولة إسرائيل"، والآخر هو الذكرى السنوية لإعلان أول رئيس للولايات المتحدة دونالد ترامب أنَّ "القدس عاصمة أبدية لإسرائيل".
وبدلاً من الاحتفاء بالمناسبتين بوصفهما منصّتي انطلاق نحو مرحلة متقدّمة في "مسار تأسيس الدولة"، يتبيَّن اليوم أن ذكرى التأسيس واعتبار أكبر دولة في العالم القدس عاصمة لـ"إسرائيل" لا يشكلان جرعة أمل لمجتمع المستوطنين.
سقوط الديمقراطية والنموذج
إلى جانب الأزمة السياسية المتفاقمة في الكيان الإسرائيلي، يُجمع أغلب السياسيين والمعلّقين في "إسرائيل" على أنَّ هذه الحرب من تدبير بنيامين نتنياهو، وأنه يسعى إلى ضرب مساعي يائير لابيد لتشكيل الحكومة، لأنه سوف يدخل إلى السجن مباشرة من دون ذلك.
هذه الاتهامات وصلت إلى المستوطنين الذين أظهروا بدورهم ما يؤكّد زيف ادعاءات التبادل السلمي للسلطة وهشاشة النظام الديمقراطي الذي يفترض أنه كان يدير هذا الكيان، فانطلقوا حاملين السلاح والهراوات لإقامة مربعات أمنية، وذلك في تمرد واضح على القانون وما يسمى بالنظام الديمقراطي، ما دام نتنياهو يغامر ويخاطر بمصيرهم من أجل بقائه خارج السجن!
إيديولوجياً، لم يعد باستطاعة قادة هذا الكيان الحديث عن "واحة الديمقراطية"، إذ بات استهداف المواطن العربي الفلسطيني جزءاً من سياسة التجييش والحشد في الحرب الداخلية التي عنونوها بأنها أخطر من صواريخ غزة، والحديث عن حرب أهلية وعرقية صار العنوان البارز. وعلى جانبيه، سقطت فكرة النظام الديمقراطي.
التطبيع والاندماج
اشتغلت المؤسَّسة الصّهيونيّة على مشروع تفتيت القوميات والمكونات المذهبية في المشرق العربي وغرب آسيا وتفكيكها، ومشروع إيغال آلون للعام 1967 كان بداية عملية لمشروع التفتيت في محيط فلسطين المحتلة، وذلك مع اعتبار أن تذويب الهوية الفلسطينية وتلاشيها سيكونان تحصيلاً حاصلاً. وفي أواخر التسعينيات، ظهر مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بتنظيرات شيمون بيريز، وبدعم من مؤسّسة البروتستانت الإنجيليين في الحزب الجمهوري.
وقد صدرت مشروعات تسوية أخرى سياسية وجيوسياسية واجتماعية متعددة، كانت تراهن على إضعاف إرادة الإنسان الفلسطيني وفصله عن الأرض والتاريخ، وعن امتداده القومي والإسلامي، غير أن المنازلة الحالية كشفت أن لدى السكان الأصليين في هذه الأرض مناعة، وأنهم غير مطواعين أمام ترهيب التطبيع والاندماج وترغيبهما، فالفلسطيني في القدس، وفي اللد، وفي الرملة، وفي محيط تل أبيب، وفي غزة، وكل مدن الضفة، يسيرون في مسار واحد، ويتحركون وفق نغمة واحدة، فلا محاصرة غزة، ولا تفكيك الضفة وعزلها، ولا تهويد القدس، محا أو على الأقل أضعف الهوية والمعتقد الفلسطيني.
واليوم، والأهم من كلّ ذلك، هو أنَّ هذا الإنسان الفلسطيني غير المطواع أبلغ الأنظمة العربية المطبعة بشكل واضح بأن الرهان على ضعفه لم يعد مطروحاً. وإذا كنتم أقدمتم على التطبيع، وفق هذه الفرضية، فيتعيَّن التراجع والتخلي عنه. وها نحن اليوم نزعزع الاعتقاد لدى المستوطن ببقاء الكيان و"الدولة"، ونسلب منه الثقة بمرجعياته الفكرية والسياسية.
وتضيف الرسالة الصاروخية الفلسطينية: كان يراد من خلال التطبيع أن يصبح الكيان "دولة" تقوم بمهام الأمن وتشكيل الأحلاف الإقليمية لحماية الأنظمة، لتصبح "إسرائيل" بديلاً من الدور التقليدي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، ولكن، عملياً، بات هذا الكيان اليوم يذعن لتوقيتات أبو عبيدة في تحديد ساعات حظر التجول في تل أبيب.