في زمن التطبيع.. يوم القدس تجديدٌ للعهد!
مدينة السلام، مدينة الأنبياء والمرسلين، مسيحيين ومسلمين. إنها القدس الشريفة - أولى القبلتين - الَّتي حاول بنو إسرائيل كثيراً طمس هُويتها، وحاربوا الأنبياء، وعرقلوا نشرهم رسالاتهم السماوية.
امتدّ ذلك الحقد التاريخي الغابر حتى زماننا، فرأينا كل صنوف التآمر على الهوية الإسلامية لهذه البقعة المقدسة، التي تشكل عتبةً مطهرةً لكل الأديان السماوية التي اصطبغت بلون المقاومة والصمود، رغم الهالة السوداء التي أحاطها بها هذا الكيان السرطاني.
في يوم القدس، يشهد العالمُ مرةً أخرى على هذا العهدِ والميثاق. أَسّس مشروع يوم القدس الذي أعلنه الإمام الخميني (ره) في السنة الأولى لانتصار ثورته لمشروع نهضوي ثقافي بامتياز وتعبوي شعبي، لإيجاد اليقظة في ضمير الأمة.
ولعلَّ اختيار آخر يوم جمعة من شهر رمضان، وتسميته "يوم القدس" و"قدس الأقداس"، يمثل في حد ذاته ثقافة مواجهة التطبيع مع الاحتلال لاعتبارات متعدّدة. من المستحيل أن يتعايش الإنسان مع الاحتلال. إذاً، من المستحيل التعايش والتطبيع مع هذا الكيان الغاصب. تلك هي القيمة الأساسية في فكر الإمام الراحل حول مسألة القدس.
إنَّ القراءة الاستراتيجيّة للإمام الخميني تستشرف أنَّ للوجود الإسرائيلي استراتيجيات وطموحات ومخططات أعمق بكثير مما يتصوره بعض الأشخاص الذين يركّزون على الواقع الإسرائيلي، ويكتفون بالقول إنَّ المشروع الإسرائيلي مشروع احتلال للأراضي العربية أو لجزء منها، بينما القراءة الخمينية تنظر إلى الموضوع من الناحية الوجودية، أي بوصفه تهديداً للوجود الإسلامي، وليس استهدافاً لمنطقة أو أرض عربية فقط، بصرف النظر عن شكلها، بل إنه وجود استعماري واستكباري وإمبريالي غربي في عمق العالم الإسلامي والعربي وقلبه، والفارق بين القراءتين كبير.
من هنا، إنّ مواقف الإمام الخميني وقائد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي هي مواقف تؤكّد أنّ الكيان الصهيوني هو العامل الأساس في تفجير الصراعات وتهديد استقرار المنطقة.
وللوقوف أكثر على تلك المواقف، يمكن مراجعة كتاب "فلسطين في مواقف آية الله العظمى الإمام الخامنئي"، الذي صدر منذ سنوات بعدة لغات، من بينها العربية والإنجليزية.
يقول المفكّر الكبير المناهض للاستعمار مالك بن نبي، الذي ألَّف كتاباً تناول فيه المسألة اليهودية، إنَّ "إسرائيل" تمثل الخط الأمامي للاستعمار الغربي في العالم الإسلامي. هذه الثقافة التي كان هدفها منذ البدايات تفتيت الهوية الإٍسلامية لهذه المنطقة، وهُوية فلسطين العربية عموماً، تماهت اليوم في الثقافات العربية، حتى صارت مسألة التطبيع أمراً اعتيادياً وخياراً شخصياً، وحده الحاكم من يقرّر المضيّ في دربه.
هذا الأمر من أخطر ما آلت إليه الأوضاع اليوم، لماذا؟ لأنّ مسألة التهويد صارت نتيجةً تلقائيةً لثقافة التطبيع التي تمنحُ الثقة لكيانٍ محتلٍّ غاصب بأن ينتزعَ أرضاً ليست ملكاً له، وأن يطردَ أهلها من ديارهم، ويستوطنَ بيوتهم وبلادهم. وبعد عقودٍ أو قرون، تصبح هذه الأرض يهوديةً إسرائيليةً، وتنسى الخرائطُ وكتب التاريخ هُويتها الأصلية.
هذه هي ثقافة المشروع الإسرائيلي الذي دعمته الماسونية العالمية، وحرّكته مثل لعبة "ماريونيت"، وصنعت خيوطه أصابع الاستكبار والحقد التاريخي الإيديولوجي الأعمى تجاه أنبياء الله (عليهم السلام).
جذور هذه المسألة تعود إلى آلاف السنين، وهي ليست مسألةً تخصّ العصر الحديث حصراً. التهويد والأسرلة اليوم أمرٌ تلقائي تتسرّب مفاهيمه إلى عمقِ ثقافاتنا العربية للأسف، حتى يكاد الجيل الجديد لا يعرف شيئاً عن الهُوية الأصلية للقدس الشريفة.
إعلان يوم القدس يدخل في صلب ثقافة المقاومة والمواجهة مع التطبيع الثقافي والمحتل، للقول إنَّ القدس لن تكون "سائبة"، فيضيّعها الخونة والمطبّعون، بل إنها باقية بأهلها الفلسطينيين الَّذين يمثلون قطبَ الحق في الصّراع بين قوى الحق والباطل، وفي المواجهة الثقافية المحتدمة مع الاحتلال الساعي إلى إنهاء الوجود الفلسطيني في القدس، وتفريغ الأرض من أصحابها الحقيقيين، وسلب الهُوية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في الوجود.
في يوم القدس العظيم، من الواجب أن يكون الحضور بالتأكيد للفعاليات التي تُلقي الضوء على تداعيات التطبيع الثقافي بين الكيان الصهيوني وعدد من الأنظمة العربية، والتي بدأت التطبيع منذ اتفاقية "كامب ديفيد"، وبعد أن منعت إحياء مراسم يوم القدس العالمي.
إنَّ الاحتفال بهذه الذكرى اليوم يحمّلنا مسؤوليةً أكبر لتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين، فالإسراء حين ينطلق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، يبرهن على أنَّ هذا المسجد هو بوابة العروج نحو السماء.
لعلّ هذا اليوم في هذه السنة تحديداً يكون مختلفاً عن السنوات السابقة من ناحية الزخم المعنوي والروحي لدى أحرار العالم الراغبين منذ زمنٍ بعيد في الصلاة في أولى القبلتين، ورفض حلقات التطبيع المتواصلة، وذلك من أجل المضيّ نحو الهدف والقضية، لاستعادة الصورة العريقة للهُوية الإسلامية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً