في الذكرى الثانية والأربعين: إيران.. أفقٌ بحلّةٍ جديدة
في الفجر الثاني والأربعين، يشرقُ وجهٌ جديدٌ لإيران الجمهورية؛ وجهٌ بملامحَ نابضة بالحياة، ربما بخلاف ما تختبره الثورات بعد برهةٍ من الزمن من اضمحلالٍ لشعاراتها وتضاؤلٍ لحضورها في الأذهان، بعد أن تدخل صفحات التاريخ لا أكثر!
إن الثورة في إيران تتخذ حلّةً متجددة عاماً بعد عام، لأنّ قيمها ومرتكزاتها لا تشبه قيم الثورات الأخرى، فقيمها لا تصبّ في اعتبارات السلطة والمنصب والمصالح المادية والغايات الاستراتيجية والأهداف التوسعية ورغبة الهيمنة والسيطرة. هذه الثورة ارتكزت على القيم الإنسانية التي تضع الإنسانَ والعدالة والمساواة والأخوة والمحبة والصلاح والحق والخير نصبَ أعينها، فكانت، كما أراد قائدها وأعلن دائماً، مبنيةً على الإيمان بالله والعقيدة والوحدة والاتحاد في وجه الطغيان والاحتلال والانحلال.
لقد شكّل الحدث في العام 1979 نقطةً عطفٍ حازت أهميةً كبرى في دراسات المفكرين والفلاسفة وقراءاتهم، لما لها من أهمية على مستوى الأدوات والمصاديق، ولكونها تنطلق من القيم الإنسانية والتربية السماوية. إنّ الثورة في الفلسفة الإسلامية تعني الحركة البشرية المتواصلة من أجل تحقيق الخير والحق واستمراريته، وهو ما أكَّده مؤسس الثورة الإمام الخميني، وجدده القائد الخامنئي، بأنّها ثورةٌ ترمي إلى بناء حضارةٍ إنسانيةٍ وأمةٍ عالميةٍ واحدة، ولا سيما في خطابه حول الخطوة الثانية من الثورة في إيران.
بعد انحطاط المجتمع الإسلامي في العصر القاجاري، كان النظام البهلوي البديل الأسوأ الذي أخرج البلاد من مستنقعات الجهل إلى مستنقعات الفساد والخضوع والتبعية واستيراد الحداثة الوهمية. هذا البركان الذي أخذ يتجمع منذ مئات السنين تفجّر أخيراً على يد الرجل الذي أقبلَ لمحاربة التبعية والإذلال الاستكباري لقوى الهيمنة في العالم، فكان الإمام الخميني أستاذ الفلسفة والحكمة المتعالية الذي تجرع مباني العرفان النظري، وأراد لبلاده أن تسير على هذا النهج المعنوي الأصيل من خلال تحقيق العرفان العملي.
هذه الثورة كانت بشهادة كبار المفكرين ثورةً شعبيةً عابرةً للطبقات. لم تخصّ طبقةً معيّنة مثلما كانت الثورات الأخرى بالمجمل، وكانت ثورة عزلاء لا إمكانيات عسكرية لديها في مواجهة أكبر جيشٍ وأعتى قوةٍ في المنطقة، فكانت نموذجاً لتحقيق الحكم الديمقراطي الذي تتبجح الدول الكبرى به، وتدّعي أنها دولٌ تحترم حرية المواطن ورأيه. هي برهةٌ اتسمت بكونها "لا شرقية ولا غربية"، وحملت خطاب الوسطية والتعايش السلمي بين الأديان والطوائف والمذاهب والانتماءات والتسامح ونبذ الخلافات والصراعات، من خلال الحوار الذي يشكل حاجةً بشريةً بين كل الحضارات والأديان.
بهذا الخطاب، فرضت إيران نفسها في السيرورة التاريخية، وسجّلت نتائج مسيرتها في كل المستويات، إذ شهدت الساحة الثقافية والعلمية والتقنية والفنية قفزاتٍ نوعيةً في الأدب والترجمة والعلوم والنانو والفيزياء والطب وسائر المجالات، إلى جانب وضع المرأة وإنجازاتها الّتي حقّقتها منذ لحظة النصر، فتبوأت أعلى المناصب، وكانت شريكةً للرجل في صناعة القرار وبناء الدولة.
يؤكد القادة منذ 4 عقود حتى اليوم ترسيخ العلاقات الثقافية بين إيران والدول العربية، ولا سيما بلدان الجوار، إلى جانب وقوف إيران إلى جانب الدول الضعيفة والمستهدفة من قبل محور الهيمنة، وأهم ما تحمله من همٍّ اليوم هو القضية الفلسطينية التي تعتبرها البوصلة الأساسية في نهجها العملي.
إننا اليوم في الذكرى الثانية والأربعين، نتلمّس بوضوح الثمارَ الناضجة لذلك الحدث، ولا يسعنا الحديث عن تفاصيل الإنجازات والنجاحات العلمية والثقافية والتقنية هنا، فالشرح يطول، لكن نكتفي بالقول إن آخر مفاخر ذلك الجيل وأبناء هذه المسيرة كان لقاح كورونا الذي ابتكرته إيران، رغم كل العقوبات والحصار الاقتصادي المفروض عليها والغزو الثقافي والحرب الناعمة بكل أدواتها، فقد ابتكرت اللقاح بتقنية الـ"mRNA"، وهو ما لم یتوقعه العالم من هذا البلد الذي يعيش تحدياتٍ كبرى اليوم، كما اعتاد أن يعيش منذ أيام الحرب وتآمر الاستكبار عليه واستنزاف قدراته.
اللقاح الذي ينافس اليوم لقاحات الدول الكبرى هو آخر أمجاد هذه الثورة التي سوف تبقى حيةً من خلال قيمها الإنسانية التي تتخطى الزمان والمكان، لتعبرَ إلى الغايات البشرية الكبرى.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً