“مسرحية” الانتخابات الامريكية
كلمة ديمقراطية تأتي من كلمتين اليونانية ديموس demos و كراتس kratos أي “حكم الشعب”. وبدون لف ولا دوران فإن الرأسمالية والديمقراطية خصوصاً الامريكية ضدان لا يلتقيان. هذا ليس ما أقوله أنا فقط وإنما يقوله شيخ الرأسماليين جورج سورس في كتابه أزمة الرأسمالية العالمية The Crisis of Global Capitalism : “الرأسمالية والديمقراطية تتبعان مبادىء مختلفة ومتنافرة تمامًا. إن أهداف هذين المبدأين مختلفة : ففي الرأسمالية الغاية هي الثروة، أما في الديمقراطية فالغاية هي السلطة السياسية. كما أن معايير هذين المبدأين مختلفة: ففي الرأسمالية يعتبر المال هو وحدة القياس، أما في الديمقراطية فهي صوت المواطن. إن مصالح هذين المبدأين مختلفة أيضـًا: ففي الرأسمالية تعتبر المصالح الشخصية الخاصة هي الأهم، أما في الديمقراطية فلا شيء فوق صوت المصلحة العامة. وفي الولايات المتحدة، يتمثل هذا التوتر بين الرأسمالية والديمقراطية في الصراع الأزلي بين بارونات المال والشعب”.
كما أن ما كتبه المؤلف الامريكي ويليام غرايدر William Greider وهو مؤلف لعدة كتب ومساعد مدير تحرير سابق في صحيفة الواشنطن بوست في احد كتبه تحت عنوان “من الذي سيبلغ الناس” Who Will Tell The People جاء فيه: “ان الرسالة الصريحة التي يعلنها هذا الكتاب هي ان الديمقراطية الاميركية تعاني من المشاكل العميقة اكثر مما يود معظم الناس الاعتراف به . وخلف الوجه الزائف الذي يدعو الى الاطمئنان تم افـراغ معارك الانتخابات الاعتيادية والمعاني الجوهرية لضبط النفس من مضامينها . وما يقبع خلف الاطار او القشرة الرسمية هو تحطيم منظم للقيم المدنية والفضائل التي نسميها الديمقراطية” . واضاف “انه في اعلى المستويات من الحكم، فان سلطة اتخاذ القرار قد سحبت من ايدي الكثرة الى القلة”.
اذن لا ديمقراطية مع الرأسمالية ولا حكم الشعب في الديمقراطية الرأسمالية الامريكية . اما إلى عشاق الولايات المتحدة (وديمقراطيتها) فليناقشوا جورج سورس ووليام غريدر وليس عبد الحي زلوم. ودعني أضيف للشعر بيتا فأقول انه إذا كان تعريف العلمانية هو فصل الدين عن شؤون الدولة فأقول أن الولايات المتحدة ليست دولة علمانية. على من لا يعرف التاريخ الأمريكي أن يعلم أن جميع الجرائم التي ارتكبها النظام الرسمي الأمريكي و توسعاته كانت تحت دعاوى دينية بأن الله قد فوض الولايات المتحدة لهداية البشرية تحت رايتها وهو ما يسمى Manifest destiny وله اسم اخر هو American exceptionalism اي الاستثنائية الامريكية، كما أن الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية المتحكمين في مفاصل الدولة الأمريكية هما حركتان دينيتان توجهان السياسة الأمريكية الى حد بعيد بعيد وان جميع الرؤساء الامريكيين من البروتستانت (عدا كنيدي وتم اغتياله )وان الرؤساء كان اكثرهم من الاعاديون مصدر الصهيونية البروتستنتية المسيحية.
عن الديمقراطية الأمريكية و امتلاكها من طبقة الواحد بالمئة والتي أصبحت اليوم مملوكة من 400 من الرأسماليين الذين يملكون نصف ثروة الولايات المتحدة فهذا بعض ما جاء بالفصل السابع عشر من كتابي نذر العولمة الطبعة الثانية سنة 1999: “لقد تم تجريد الديمقراطية الاميركية حسب ما هي عليه الان، من جوهرها حيث أصبحت عبارة عن عملية ميكانيكية تم إفراغها من أي مضمون . ولم يبق منها سليماً سوى مظاهرها الميكانيكية مثل اجراء الانتخابات على صعيد البلدة او الولايات او الأمة .على أن هذه الانتخابات باتت محكومة بألعاب وألاعيب مبتكرة وحيل بارعة أفقدت الانتخابات مضامينها والنوايا المعقودة عليها. وسيطر المال وما يستطيع شراءه على العملية فانحسرت واصبحت في نهايتها صوت واحد لكل دولار وليس صوت واحد لكل مواطن . واصبح على معظم المرشحين ان ينحازوا ويصبحوا جزءاً من الممسكين بزمام السلطة الحقيقية في البلاد حتى ولو أنهم هم الأقلية . وعلى المرشحين أن يكونوا مهيئين للعمل طبقاً لأجندة معدة سلفاً ومفصلة لخدمة مصالح تلك الاقلية وهي طبقة الواحد بالمائة، الذين يمتلكون الثروات والنفوذ وبغض النظر عما يمكن أن تكون عليه ماهية هذه المسائل . ومن ثم يجري تسويق هؤلاء المرشحين على أيدي أصحاب النفوذ والمال وأبواق دعاياتهم، وهذا التسويق لا يتم بتبني المرشحين لمسائل جوهرية بل لشعارات فارغة ولكنها سلسة وسهلة التسويق للجماهير . وحين يتبوأ هؤلاء المرشحون مناصبهم، يصبحوا جزءاً من نظام مُسيطر عليه تماماً يمارس كافة أعضاءه منتخبين كانوا ام مُعيّنين ادوارهم المرسومة لهم بكل دقة . ويُراقب أصحاب النفوذ والأموال إدارة هذا النظام للوصول إلى أهدافهم من خلال أسلوب كفء، وطريقة تنم عن الاحتراف والخبرة . واذا ما تراءى لمن تم انتخابهم انه قد بات بمقدورهم إدارة دفة العمل بطريقة أخرى حيال أية مسألة كبرى تخالف اجندات اصحاب مراكز قوى المال والاعلام فقد يجدوا أنفسهم فاقدين لوظائفهم بين عشية وضحاها لانهم اقترفوا “خطيئة ” . ولن يعدم أرباب المال والاعلام الحيلة او الوسيلة لايجاد ” الخطيئة ” . ولعل مثل تلك الخطايا كتلك التي اقترفها الرئيس نكسون، أو قد تكون علاقة رئيس مع متدربة في بيت ابيض . ويبدو أن هناك ملف أسود مودع في خزانة في الحفظ الأمين معد وجاهز دائماً في انتظار اللحظة المناسبة . ويبدو ان وجود مثل هذه الملفات والخطايا هي جزء من الوصف الوظيفي لمثل هؤلاء الرؤساء او المشرعين او ذوي المناصب المنتخبة الرفيعة . فالناس خطاءون بطبيعتهم ولكن خطايا المسؤولين المنتخبين تبدو وانها جزءاً من مؤهلاتهم الوظيفية . إن أولئك الذين جاءوا بالمسؤولين المنتخبين إلى مقاعد السلطة بواسطة النفوذ والمال يستطيعون دوماً، وبنفس تلك الوسائل، تحطيمهم بواسطة نفوذ المال والاعلام . ان الله يسامح المخطئين اذا تابوا ولكن اصحاب النفوذ والثروات لا يتسامحون ولا يسامحون . وربما ينسون أو يتناسون مادام النسيان او التناسي خادماً لأغراضهم .
ويمكن أن تتوفر لمسؤولي الادارة الاميركية والمشرعين مجالاً لممارسة الحرية التكتيكية لاختيار أفضل الوسائل لتطبيق أجندة معينة ومحدودة . أما بنود الاجندة نفسها فهي أمور استراتيجية يجب تطبيقها لا تغييرها ….. والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا يجد أولئك المسؤولون المنتخبون انفسهم مضطرين للتصرف على النحو الخاطئ ؟ والجواب الواضح على ذلك هو انهم يشعرون بأنهم مسؤولون تجاه تلك المؤسسات والمصالح المالية التي كانت العون لهم حتى انتخبوا . انهم لا يشعرون بنفس الاحساس بالمسؤولية تجاه من انتخبوهم، حيث علموا أنه يمكن التاثير عليهم وعلى مواقفهم وتغييرها من خلال نفوذ سماسرة المال والسلطة …. ان اصحاب رؤوس الاموال من طبقة الواحد بالمائة يسيطرون على البنية الهيكلية للسطوة والنفوذ في البلاد من خلال المزيج الذي يتم بصورة ماهرة وذكية بين المال والاعلام والتسويق . وينتج عن هذا المزيج حملة من الطراز الاول لتسويق المنتج المرغوب في تسويقه. وربما يكون المراد تسويقه شخصاً لمنصب منتخب او قضية مثارة أو شيء آخر، ان التزاوج بين هذه العوامل الثلاثة والتي أسميناها (3M) Money , Media , Marketing هي المعادلة التي يتم ادارة الديمقراطية الامريكمية والسيطرة عليها
ان الناخبين المساكين الذين يقضون كل اوقاتهم للحصول على قوت يومهم والخوف من غدهم يبهرون بشعارات وصور ما يتم تسويقه لهم فيسارعون إلى انتخاب الصورة بدلا من انتخاب الشخص الحقيقي.
جاء في كتاب (اسرار المعبد ص11 – Secrets of The Temple): “أن النظام الاميركي يعتمد على صفقات أكثر عمقاً من الانتخابات، وقد أفرز آلية اخرى للحكومة تخرج عن المدى الذي يصله الصوت الشعبي، وهي الآلية التي ادارت الصراعات المستمرة للرأسمالية الديمقراطية، وهي عملية الشد والتنافر الطبيعية بين هاتين الكلمتين (الديمقراطية) و (الرأسمالية) . لقد اصبحت هذه الآلية جزءاً من الحكم وان تم ابقاؤها عمداً خارج العملية الانتخابية وفي منأى عن المحاسبة السياسية. وفي الواقع فان قوى هذه الآلية تتمتع بقدرتها على مقاومة الانفعالات الشعبية ويمكنها أن تعاقب المجتمع بشكل عام . أن بنية هذه الآلية وهذا النظام للحكم الاميركي قد تعايش مع النظام المنتخب وتقاسم السلطة مع الكونغرس والرئيس واجرى معهما علاقات تعاون وتنسيق وفي بعض الحالات اعترض عليهما وأحبطهما .
لقد تم تحويل ثم مأسسة الوعد الديمقراطي ليصبح حقيقة تكنوقراطية. وحيث أن العقود الاولى من القرن العشرين أفرزت طبقة جديدة من المحترفين في مجالات الادارة والتعليم الاكاديمي وادارة الاعمال والنشاطات التجارية وحيث أن هذه الطبقة قد سدت حاجاتها الاولية الاساسية فلقد دخلت الى عالم الحاجيات السيكولوجية من تحقيق الذات او الابداع المهني عبر المناصب الادارية والحكومية . وأصبح التكنوقراطيين يتشاركون مع طبقة الواحد بالمائة كون الطبقتين قد دخلتا عالم الاحتياجات الثانوية . لقد احست فئة الواحد بالمائة بالمتعة التي يوفرها نفوذ المال حتى في اكثر صور هذا النفوذ تجردا وصيرورتها إلى ارقام صماء وحسابات ونبضات الكترونية على جهاز الحاسب الآلي. اما فئة التكنوقراطيون فقد استهوتهم متعة النفوذ التي توفرها الوظائف الكبرى . ولقد تم دمج قوى الفئتين ليشكلا ويديرا ديمقراطية ميكانيكية . واتفق الطرفان على حدود كل منهما وأَنّ من يمارس الحكم في النهاية هو من يملك المال .” انتهى الاقتباس من كتاب نذر العولمة .
يمارس بعض الرؤساء الامريكيون الحكمة لاثر رجعي بعد انحسار خوفهم من اصحاب السلطة الحقيقيين فهذا الرئيس الاسبق ار . بي هيز يقول : ” أن مقولة هذه حكومة الشعب وبالشعب وللشعب لم تعد قائمة …انها حكومة الشركات وللشركات وبالشركات “.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً