نداءات الصدر .. تصعيد في المواجهة
عندما كان النظام مستمراً بمحاكمة المعتقلين من المشاركين في انتفاضة رجب للفترة 27 حزيران – 26 تموز 1979 وإصدار أحكام الإعدام والسجن المؤبد برجال ونساء، مدنيين وعسكريين، كان السيد الصدر قد اعد خطته للمواجهة من خلال توجيه نداءات مسجلة على أشرطة الكاسيت وموجهة إلى الشعب العراقي.
صدر النداء الأول بعد يومين من انتفاضة رجب أي في 15 حزيران 1979 ، والنداء الثاني صدر في 5 تموز 1979 ، والثالث وهو الأخير في 8 تموز 1979 . تضمنت النداءات ما يأتي :
1- التأكيد على الوحدة الوطنية العراقية ، وأن جميع المكونات هم موضع اهتمام ورعاية السيد الصدر . إذ يخاطب الشيعي والسني والعربي والكردي على السواء، وأنه بذل وجوده من أجلهم جميعاً . كما قال (( فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي)). وخاطب الجميع بقوله ((يا إخواني وابنائي من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء بغداد وكربلاء والنجف، من أبناء سامراء والكاظمية، من أبناء العمارة والكوت والسليمانية ، من ابنا العراق وكل مكان)),
2- كان السيد الصدر يدرك أن النظام يحاول أن يضع إسفين الطائفية بين أبناء الشعب العراقي، والزعم بأن معارضيه هم الشيعة فقط. ولذلك لم يتردد في مخاطبة العقل السني بقوله (( وأقولها لكم يا أبناء علي والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر، إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني.... إن الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً، وإن كانت الفئة المتسلطة تنتسب تاريخياً إلى التسنن)) .
3- المطالبة بإطلاق حرية الشعائر الدينية بعد أن قام النظام بإسقاط الأذان من الإذاعة، وإيقاف بث صلاة الجمعة في الإذاعة، ومنع الشعائر الحسينية، وحاصر المساجد وملأها بعناصر الأمن والجواسيس.
4- إيقاف حملات الإكراه على الانتساب لحزب البعث في المدارس والجامعات والدوائر الحكومية والمنظمات المهنية ولجميع الفئات العمرية.
5- الإفراج عن المعتقلين بصورة تعسفية ، وإيقاف الاعتقال العشوائي الذي يجري دون علم القضاء.
6- الإشارة إلى الذين اعتقلوا إثر انتفاضة رجب بقوله ((وهذا هو الذي جعلهم يبادرون إلى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين ، والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم حملات السجن والاعتقال والتعذيب والاعدام وفي طليعتهم العلماء المجاهدون الذين يبلغني إنهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط التعذيب)).
7- انتقاد احتكار السلطة عشائرياً ، وأن إضفاء طابع الحزب عليها ليس سور تزوير للحقائق.
8- استمرار الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب، والتفنن في امتهان كرامته.
9- ينعى السيد الصدر نفسه ويعلن أنه مقبل على الشهادة منذ النداء الأول لأنه يعلم جيداً أن السلطة لن تتركه وشأنه طالما تصدى بشكل علني لمواجهتها وعبر نداءاته التي كانت تذاع من إذاعة طهران فيسمعها العراقيون. إذ يقول (( وإني أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلفني حياتي)). وفي النداء الثاني يقول (( وأنا أعلن لكم يا أبنائي بأني صممت على الشهادة ، ولعل هذا هو آخر ما تسمعونه مني)).
لم يكتف السيد الصدر بالنداءات والنقد المباشر والصريح للسلطة بل اتخذ خطوات أخرى تستهدف الإستعداد لمرحلة أخرى من المواجهة فقد قام بما يأتي:
1- أفتى بحرمة الانتساب لحزب البعث والتعاون معه تحت أي عنوان ولو انتماءً شكلياً.
2- أفتى بحرمة دخول الطالبات إلى الجامعات بدون الحجاب الإسلامي.
3- أصدر حكماً شرعياً بحرمة الصلاة خلف رجال النظام المتلبسين بزي ديني.
4- استنفر تلامذته وممثليه ووكلاءه، ووزعهم على مدن العراق، وفرّغ بعضهم للتنقل بين المناطق المختلفة.
واستعداداً للمرحلة القادمة أمر السيد الصدر بجمع وشراء الأسلحة ، التحريض على التظاهر والإضراب ، وتوزيع المنشورات لإطلاع الجماهير على موقف حزب الدعوة و توجيهها حسب تطورات الأوضاع.
لم يكن حزب الدعوة يريد التصعيد مع السلطة ، لكن النظام لم يجعل للحزب خياراً آخر لأن صدام لا يؤمن سوى بالقوة والقمع والعنف لإسكات معارضيه. ولم يكن بحاجة إلى إثبات ذلك لأن ممارساته الإجرامية لم تكن تخفى على أحد. ومع ذلك كان السيد الصدر وقيادة حزب الدعوة تسعى لتجنب العنف قدر الإمكان، بل والمشاركة في انتخابات حقيقية. فبعد انتصار الثورة في إيران عام 1979 أعلن النظام عن رغبته بإجراء انتخابات للمجلس الوطني (البرلمان) ، وتم الاستفسار عن موقف السيد الصدر الذي وجّه (( بضرورة مراقبة الوضع عن كثب لاكتشاف نوايا السلطة ، فإذا كانت خطواتها تلك شكلية فليس هناك مجال للمشاركة فيها. أما إذا كانت حقيقية فإننا نعمل على تكتيل المتدينين ، وندفعهم للمشاركة للحصول على تمثيل مناسب في المجلس الوطني المزمع تشكيله)). فلو صدق النظام في نواياه لشاركت الأحزاب السياسية تحت واجهات معينة، ولشارك المواطنون في اختيار ممثليهم الحقيقيين. لكن النظام منع ترشح أي مواطن دون موافقة المنظمة الحزبية في منطقته أولاً.
إعدام السيد محمد باقر الصدر
منذ إطلاق سراحه بعد انتفاضة رجب في حزيران 1979 بقي السيد الصدر محجوزاً في داره ، معزولاً عن الاتصال بالعالم الخارجي. لقد جربت السلطة ردود الأفعال الجماهيرية والتظاهرات المعارضة لها عندما اعتقلت السيد الصدر، ولذلك حاولت تسوية التشنج سلمياً مع السيد الصدر ولكن بثمن يدفعه السيد الصدر من موقعه وكبريائه ومسؤوليته ومرجعيته. إذ أرسلت إليه كل من الشيخ عيسى الخاقاني ومبعوث من رئاسة الجمهورية فأبلغوه بشروط إذا قبلها سيتم رفع الإقامة الجبرية عنه وهي:
1- رفع الفتوى بحرمة الانتماء لحزب البعث والافتاء بجواز ذلك.
2- عدم دعم الثورة الإسلامية والبراءة من العلاقة بالإمام الخميني.
3- البراءة من حزب الدعوة الإسلامية والافتاء بتحريمه.
رفض السيد الصدر هذه الشروط رفضاً قاطعاً . بعد ذلك أرسل صدام مبعوثاً آخر هو السيد علي بدر الدين ، وهو رجل دين شيعي لبناني، فعرض عليه تنازل النظام عن شروطه السابقة والاكتفاء بفتويين هما:
1- تحريم الانتماء لحزب الدعوة الإسلامية
2- جواز الانتماء لحزب البعث.
فكرر السيد الصدر رفضه ، وعاد مبعوث صدام مرة أخرى حاملاً معه تنازلاً آخر حيث قال له : (( إن الرئيس يبلغك تحياته ويقول: إننا نكتفي منك بفتوى واحدة من الفتويين السابقتين)) وأضاف ((إذا أصدرتم مثل هذه الفتوى ، فستفك الحكومة عنكم الحصار، ويزوركم السيد الرئيس بنفسه، ويهدي إليكم سيارته الخاصة، وتنفتح لكم الدنيا)). ثم انتهت المفاوضات إلى قبول السيد الصدر إجراء مقابلة في صحيفة أجنبية، يؤكد فيها أن علاقته على ما يرام مع النظام ويشيد فيها بإنجازاته.
غضب السيد الصدر وسخر من هذا العرض التافه، ثم طرد مبعوث صدام، وأمره بعدم المجيء إليه مرة أخرى. وهذا ما يؤكد موقف السيد الصدر من أمرين:
الأول: أن لن يفرط بحزب الدعوة الإسلامية أو يمنع الجماهير من الانتماء إليه.
الثاني: أنه بقي مؤمناً بحرمة الانتماء لحزب البعث ولن يتنازل عن فتواه ولو كلفه ذلك حياته.
لقد كان بإمكان السيد الصدر مغادرة العراق وقيادة التحرك من الخارج، لكنه رفض هذا العرض. ومضت ثمانية أشهر على احتجاز السيد الصدر في منزله، ولم يكن في الأفق سوى خيار الشهادة، خاصة وأنه لم تجر أية وساطة لفك الحصار عنه، ولم يسجل موقف للمرجعية آنذاك التي يتزعمها السيد أبو القاسم الخوئي أنها بادرت للدفاع عن السيد الصدر أو حتى زيارته للتعبير عن التضامن معه. الأمر الذي ربما سيجعل السلطة تعيد النظر في حساباتها وإجراءاتها فالأمور تسير نحو التدهور لتنتهي نهاية مأساوية. لقد تأكدت السلطة أن النجف وحوزتها ومرجعيتها أضعف مما كانت تتصور، وأن ردود أفعال الجماهير لن تكون قوية أو واسعة بعد أن تم اعتقال وإعدام عشرات من وكلاء السيد الصدر، ومئات من كوادر حزب الدعوة الإسلامية.
في يوم الأحد 5 نيسان 1980 داهمت قوة كبيرة من عناصر الأمن منزل السيد الصدر، حيث تم اعتقاله ونقله إلى بغداد. وبعد يومين أعتقلت شقيقته العلوية آمنة الصدر (بنت الهدى) ونقلت إلى بغداد أيضاً. بعد تعرضهما لصنوف التعذيب الجسدي والمعاناة النفسية تم قتلهما بشكل وحشي في التاسع من نيسان 1980 . ورغم ذلك لم يضعف السيد الصدر ولم يستكين ولم يساوم على مبادئه وقيمه ومواقفه بل تعالى على الآلام وعض على جراحه ليلقى بارئه منتصراً لعقيدته وشعبه ، ليكون مناراً للثوار ، ومشعلاً يهتدي به الشعب العراقي.
لم يحدث أي رد فعل غير طبيعي، لأن السلطة اتخذت احترازاتها قبل إعدام السيد الصدر. إذ لم تصدر الحوزة العلمية بياناً تنعى فيه الشهيد الصدر، ولم يعطّل المرجع الأعلى السيد الخوئي درسه أو صلاة الجماعة كما هي عادة الحوزة في الأمور العظام. أما على الصعيد الإسلامي فلم يصدر عالم سني واحد استنكاراً للجريمة ، ولم تصدر أية مؤسسة إسلامية أو أحزاب سياسية أية بيانات إدانة عدا الحزب الشيوعي العراقي.