ذكرياتي الشخصية مع الشهيد الصدر
في ذكرى مرور أربعين عاماً على شهادته ترجع بي الذاكرة إلى لقاءاتي بالشهيد الصدر الأولى وكيف كانت انطباعاتي عنه عندما كنت في مرحلة الشباب الجامعي. لقد قابلت الشهيد الصدر مرتين :
الأولى ، في ربيع عام 1974 ، عندما كنت في زيارة إلى النجف الأشرف في أحد أيام الأعياد. فعرض عليّ صديق أن نقوم بزيارة السيد الصدر. توجهنا إلى منزله الذي يقع في زقاق في إحدى محلات المدينة العتيقة. اجتزنا بوابة الدار القديمة لنقف في ممر ضيق ، ثم دخلنا باباً من جهة اليمين يؤدي إلى حجرة ، لنجد جمعاً من الجالسين يتوسطهم السيد. أخذنا مكاننا .
كان السيد مشغول بالسلام على الجالسين واحداً واحداً ، وأغلبهم من الشباب الجامعي، وأحياناً يسألهم عن فلان صديقهم من البصرة أو مدينة أخرى، وهو مبتسم. استمر السيد يتحدث ويجيب على أسئلة الحاضرين. وجدت أنه لن تكون لي فرصة الحديث وسط هذا الجمع المتلهف على الكلام مع السيد. عندها همس صديقي بأذني: ألا تريد الكلام مع السيد ؟ فقلت: بالتأكيد، فقال: تقدم واجلس أمامه واطرح سؤالك.
بالفعل تملكت الشجاعة ونهضت ثم جلست أمامه قريباً منه ليكون منتبهاً لي وحدي. طالعت قسمات وجهه ، ولحيته وعمامته، وملئتني الرهبة والهيبة ، وصوته يهز صدره ، كأنه يتحدث في بئر عميق. لا أعرف لماذا تذكرت الامام الصادق (ع) آنذاك. هربت مني الأسئلة ، ثم سألت: سيدنا أنتم تقولون أن كرة القدم تشغل المرء عن ذكر الله، كيف؟ ابتسم وقال : إن الأجواء المصاحبة للمباراة لا تسمح بذكر الله. ثم سألته : فهل توجد رياضة أفضل؟ وأنتم ماذا تفضلون؟ فحرك كفه في الهواء كلاعب ، مردفاً : كرة المنضدة. شكرته وقبلت وجنته وعمامته، ثم عدت إلى مكاني.
المرة الثانية في صيف عام 1977 ، كنت في الخدمة العسكرية في قاعدة الوليد قرب مدينة الرطبة على الحدود العراقية الأردنية، بعد تخرجي من الجامعة. تعرفت بصديق من الكوفة ، ودعاني لزيارة منزله عند نزولنا في الاجازات ، كل أسبوعين. سافرت إلى النجف والكوفة ، وهناك التقيت بصديق له من أهل الكوفة أيضاً ، كانت له صلة مع السيد الصدر. اتفقنا على أن يحدد لنا موعداً مع السيد .
كانت وقت الموعد ظهراً ، وصلنا إلى المنزل ، خرج الخادم ، وتوجه بنا إلى داخل حوش الدار ثم نرتقي الدرج ، ثم إلى غرفة علوية صغيرة . كانت مكتبة السيد ، تصطف الكتب والمجلدات القديمة على الرفوف ملاصقة للجدران. واصطفت مجموعة من البسط والوسائد على الأرض. استقبلنا السيد بكل ترحاب ، وسألنا عن أحوالنا وأمورنا. بدأنا بالحديث من خلال طرح الأسئلة في القضايا التي كنا مبتلين بها حول قضايا كثيرة. جاء دوري فسألته عدة أسئلة أتذكر منها:
سؤال 1 : سمعت أحد الخطباء يقول أن جلوس صاحب المطعم أو المقهى لاستلام حساب الزبائن ، غير شرعي لأنه لا يقوم بعمل فعلي.
أجاب السيد: غير صحيح ، لأن صاحب المطعم ساهم برأس المال ، وهو الذي يدير المطعم، ويتحمل الربح والخسارة. ومن يعمل في المطعم يستلم أجره ، وغير مسؤول عن شيء. فجلوس صاحب المطعم هو أنه يقوم بدور المحاسب ، وليطمئن على الدخل اليومي.
سؤال 3: يمكن للموظف الحكومي أن يأخذ سلفة من مصرف الرافدين قيمتها (150) ديناراً ولكنه يستلم (139) ديناراً لأن الـ (11) ديناراً هي فوائد السلفة تستقطع مقدماً . ثم يبدأ بتسديد أقساط شهرية حسب مستوى راتبه. فهل هذا ربا؟
أجاب السيد: ليس كذلك ، ويمكن أخذ السلفة وتسديد الأقساط.
سؤال 3: ما قولكم في القرض العقاري حيث تفرض فائدة على القرض ، ويتم تسديده بأقساط تمتد عشرين عاماً ؟
أجاب السيد : يجوز أخذ القرض.
فقلت: هل يمكن شرح ذلك؟
أخذ السيد يتحدث عن كيفية أخذ القرض مستخدماً مصطلحات مالية واقتصادية . بالحقيقة لم يكن بوسعي آنذاك استيعاب ما شرحه .
قدمنا شكرنا للسيد، ثم نهضنا ونهض سماحته ليودعنا بالمصافحة والتقبيل ، والابتسامة لا تفارق محياه، وعبارات الدعاء ترافقنا حتى خرجنا من حجرته التي كتب فيها أشهر مؤلفاته والفقهية والأصولية والفلسفية والاقتصادية والمالية وبحوثه في السيرة والامامة.
مراسلات مع الصدر
خلال الدراسة الجامعية كنت على تواصل مع السيد الشهيد . إذ كنت أبعث له برسائل واستفتاءات حول مختلف القضايا الابتلائية والفكرية والتاريخية. كنت أرسل الرسالة بيد صديقي من النجف عند نزوله في عطلة إلى أهله. فيذهب ويسلم الرسالة ، ثم يعود يوم أو أكثر لاستلام الجواب مكتوباً بخط اليد والختم.
أتذكر بعض الأسئلة الشرعية مثلاً:
سؤال: يقول القرآن الكريم (وانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلات ورباع) ، وهذا تشريع لتعدد الزوجات مشروط بالعدل بين الزوجات. ولكن القرآن يقول أيضاً ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) حيث يبدو التعدد مستحيلاً لصعوبة العدل بين النساء ، فكيف ذلك؟
أجاب السيد: سؤل الامام الصادق (ع) بهذا السؤال فأجاب: العدل المطلوب بين الزوجات هو الكسوة والنفقة والفراش. وأما عدم الاستطاعة فالقصد منه المحبة القلبية ، فلا يمكن حب الزوجات كلهن بنفس الدرجة بل يبقى القلب يهوى واحدة أكثر من غيرها.
سؤال: في قرأته حول أحكام الرق أنه يجوز لمالك جارية أن يعيرها لصديق كي يتمتع بها ويمارس العلاقة معها ، وله أن يشرط عليه بأنه إذا حملت الجارية وولدت ، فإن الطفل يكون عبداً لمالكها. فما ذنب الطفل أن يولد عبداً؟
أجاب السيد: هذا أمر خارج مسائل الابتلاء ، والخوض فيه بلا فائدة .
وكنت أحتفظ بتلك الرسائل بمكان بين أوراقي وحاجاتي في المنزل. بعد الهجرة ، وخوفاً من التفتيش والملاحقة من قبل عناصر الأمن ، قامت والدتي باتلاف جميع كتبي وأوراقي ورسائلي خوفاً من وقوعها بأيد السلطات ، وتعرض عائلتي للاعتقال والأذى.
الفتاوى الواضحة من يده الشريفة
كنا نتابع انتشار مرجعية الصدر في وقت مبكر . فعندما نشر تعليقته على كتاب (منهاج الصالحين) وهي الرسالة العملية للمرجع السيد الحكيم (رحمه الله) تلاقفناها بسرعة ، كي نعرف رأي السيد الصدر في كثير من الأمور. بالحقيقة كانت فتاوى جديدة في كثير من القضايا ، وبعضها أثار جدلاً بين الأوساط المتدينة مثل عدم حرمة الشطرنج ، وعدم حرمة لعب الورق بلا رهان. ومنها طهارة مشروب البيرة ، وأن النجس من المسكرات فقط تلك المتخذة من العصير العنبي. وطهارة الكتابي ، وغيرها من القضايا الفقهية.
وعندما صدرت رسالته المعروفة (الفتاوى الواضحة) كانت فتحاً جديداً في الشكل والمضمون واللغة واسلوب العرض. وطبعت عدة طبعات بلغت أكثر من عشر طبعات في وقت قصير. وكنت قد اشتريت واحدة. وفي أحد الأيام تملكتني رغبة في أن تكون لي نسخة استلمها من يد الصدر نفسه. أوصيت صديقي النجفي أن يقوم بزيارة السيد ويعرض عليه قضية تتضمن هداية شاب ، وأننا نريده ان يقلد سماحته، ونطلب نسخة من رسالته العملية. وبالفعل ذهب صديقي وتحدث بما اتفقنا عليه ، عندما نادى السيد خادمه وطلب نسخة من الفتاوى الواضحة، وأعطاها لصديقي وقال له سلم لي على الشاب. وصلتني النسخة ، وكانت طبعة تجارية بورق أسمر رخيص. يبدو أن السيد كان قد خصصها للاهداء. فرحت بها، وقبلتها ، وصرت أعتز بها أكثر من أي كتاب في مكتبتي. وأعطيت الشاب نسخة فاخرة كنت قد اشتريتها من قبل. وللاسف تعرضت تلك النسخة العزية إلى التلف والتدمير مع بقية كتبي في مرحلة زمنية مظلمة من تاريخ العراق.