السودان .. عام على الثورة
تمر علينا هذه الايام الذكرى الاولى لانطلاق الثورة السودانية التي اطاحت بنظام الرئيس عمر البشير .
وبدأت احتجاجات شعبية عارمة في 12 ديسمبر كانون الثاني من العام الماضي بولايات النيل الأزرق ودارفور قبل أن تلحق بها ولايات الشمالية ونهر النيل في 19 ديسمبر احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المأزومة ، تطورت لاحقا الى دعوات لرحيل النظام بانضمام الخرطوم والقضارف وولايات أخرى لموجة الاحتجاجات واتصلت المظاهرات على مدى خمس أشهر قبل أن تنتهي بتنحية نظام البشير في 11 أبريل نيسان المنصرم.
الاوضاع الاقتصادية المتأزمة وغلاء المعيشة وازمة الخبز والمحروقات كانت بمثابة الشرارة التي اشعلت نار الغضب الشعبي والاحتقان عبر ثلاثة عقود مارس خلالها النظام السابق كل اشكال الظلم والتمييز بحق ابناء بلده ما حدا بالبعض الى حمل السلاح و التمرد على دولة "التمكين" ،وهي السياسة التي انتهجها النظام منذ انقاضضه على السلطة في صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 حيث سرح جيوش من كوادر الخدمة المدنية ظلما واستبدلهم بكوادره ومنسوبيه الامر الذي انعكس سلبا على اداء المؤسسات الحكومية وفشلها في تنفيذ برامجها كما كرس للفساد واستغلال السلطة وبالتالي الى سقوط مدوي في كل المؤسسات .
انطلقت تلك الثورة وطرحت شعارات الحرية والسلام والعدالة وهي شعارات ولدت من عمق الازمة التي عاشتها البلاد عبر ثلاثة عقود فقد غابت شمس الحرية عن تلك البلاد وتقسم البلد الواحد وتفشى التمرد والحركات المسلحة والكل يطمح للسلام ، اما العدالة المنشودة لينعم المواطن بابسط حقوقه فقد شدت عصا ترحالها حينما حط القوم رحالهم وبنوا القصور وركبوا الفارهات.
بعد المخاض العسير ولدت اول حكومة للثورة برئاسة الخبير الاقتصادي عبدالله حمدوك ولعله يبدو واضحا من خلال صفة رئيسها ، ان الازمة الاقتصادية التي كانت شرارة انطلاق هذه الثورة ستغدو نقطة الانطلاق في مشوار التحديات وحلحلة مشاكل البلاد الكثيرة . كثير من المراقبين اكدوا ان حكومة حمدوك نجحت نسبيا من خلال حلولها الاسعافية في معالجة بعض المشاكل فلم تعد صفوف الخبز والمحروقات تُرى، الا ان الغلاء لايزال هاجسا يؤرق مضاجع نسبة كبيرة من ابناء الشعب السوداني .
حكومة حمدوك استطاعت ان تخلق علاقات جيدة في فترة قصيرة من عمرها مع الاتحادين الاوروبي والافريقي كما عملت مع دول الجوار العربي والافريقي الامر الذي سينعكس على اقتصاديات البلاد . الا انها لازالت تصارع ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب في معركة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، معركة يتوقف عليها الكثير من مشاريع هذه الحكومة ويستغرب كثير من المراقبين تعنت ادارة ترامب واصرارها على الابقاء على السودان في هذه القائمة رغم زوال دليل اقحام البلد في هذه القائمة المجحفة ولعل الادارة الاميركية تمارس نوعا من الضغط للحصول على امتيازات كبيرة مستقبلا فقاموس ترامب لا يحتوي على مفردات من نوع "هبة او منحة" او مشابه هذا النوع من المفردات او بالاحرى فان السياسة ككل مبنية على مبدأ المصالح ، ونتمنى ان يدير السودان الجديد هذه اللعبة وفقا لمصالحه بعيدا عن التنازلات، والتحالفات التي زج به فيها ولم يجني منها شيء سوى القتل والدمار وحفنة من الدولارات دخلت الى جيوب المسؤولين في نظام البشير.
من التحديات الكبيرة التي تواجه هذه الحكومة ايضا قضية تفكيك نظام الانقاذ اي تحليل جزئيات منظومة متكاملة عمرها ثلاثون عاما بابعادها السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية ، وهو من اكبر التحديات التي تواجه حكومة الثورة فمن جانب هناك ضغط كبير من الشارع واسر الشهداء للاسراع في انجاز هذه المهمة ومن جانب اخر فعملية كهذه تتطلب وقتا طويلا وجهودا جبارة لاسيما ان الحزب الحاكم ظل قابض على مجريات السياسة والامن والاقتصاد لفترة طويلة مايعني ان جذوره ضاربة في الاعماق وعملية اقتلاعه تتطلب جهدا كبيرا ودقة متناهية لان اي خطأ قد يحدث سيسبب كوارث كبيرة وسينعكس على حياة الناس وامنهم . مجلس السيادة بمكونيه العسكري والمدني والحكومة اجتمعوا الاسبوع المنصرم واتخذوا القرار الاصعب والاهم وهذا بعد دراسة متأنية كما اكدت ذلك مصادر حكومية وهم يدركون بطبيعة الحال ما سيترتب عليه من تبعات كانت بشائرها بيانات تهديد ووعيد من هنا وهناك اطلقها حزب المؤتمر الوطني وكتائب مايعرف بالمجاهدين ، القرار قوبل بترحيب كبير من قبل جماهير الثورة والاحزاب السياسية .وبدات خطوات تنفيذه بحملة اعتقالات طالت قادة في الحزب الحاكم وبعض رموز المجاهدين وتاميم ممتلكات الحزب ، ومازاد ارتياح الناس تصريحات رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان التي اكد خلالها وقوف الجيش خلف الثورة وحمايتها من المخاطر المحدقة . فهل ستنجح ثورة السودانيين السلمية في تجاوز هذه العقبة الكؤود والوصول الى بر الامان ؟