مراهقون.. أحذية وشعوذة.. ومهرجون!
لم نكن لنتصور أن يصل الخلاف بين الدول الخليجية إلى هذا الحد ، ظننا أن الأمر سيقف عند حدود الحملات الإعلامية المتبادلة ، وأن كانت عنيفة وحملت كل أنواع الاتهامات والتخوين . مع فنيات وحذاقة وخبرة في اصطياد الهنات والعثرات . وجعلها مادة تسوق للرأي العام العربي على أنها قضايا مفصلية مهمة أو تحويلها إلى قسم المهرجين ليصاغ منها مادة للضحك و الشماتة . كل هذا يمكن تفهمه على عبثيته.
بيد أن ما تابعناه خلال بطولة كأس آسيا لكرة القدم ، فاق التصور ، ونزل إلى درجة من المراهقة ، الضارة بجميع العرب والمسلمين . لم يكن مشهد إلقاء الاحذية و” الشباشب أو الشحاطات” كما نسميها في بلاد الشام ، على لاعبي المنتخب القطري بعد فوزه على نظيره الإماراتي بأربع أهداف مقابل لاشيء في بطولة آسيا ، إلا قطعة من مشهد له خلفياته السياسية ، ضمن معارك استخدمت فيها كل المحرمات ، وقذفت فيها الاعراض والكرامات ، ولكن المشهد في بطولة آسيا دلل بلا شك على أن الاحتقان السياسي وصل إلى قلب المجتمعات وتحول حقدا بين الشعوب الشقيقة .
إنها آلة الإعلام ايها السادة عندما يعميها الحقد و تقدم وجباته الساخنة على مدار اليوم للجمهور ، دون حساب لما يتسلل إلى النفوس ويوغل الصدور .
هربنا من هذا المشهد المؤلم للغة الأحذية ، لنقع في حبائل المشعوذين . يقول أحدهم للناس على الشاشة في بشاشة أن الأهداف الأربعة لقطر ليست سوى تعبير عن شعار رابعة الذي يرفعه” الإخوان المسلمون” ، في إشارة إلى إحداث ميدان “رابعة العدوية” شرق القاهرة واعتصام أنصار الرئيس “محمد مرسي بعد عزله عام 2013 . تسري هذه النبوءة كالنار في الهشيم على السوشل ميديا . وكأن الله أراد ان يظهر حق ضحايا رابعة ، على شكل اهداف ، واختار بطولة آسيا مكانا للحكمة الإلهية . سبحانه .. هل كان في ذهن المنتخب القطري وهو يلعب ميدان رابعة أساسا ؟
يرد الطرف المقابل بمعايرة المنتخب القطري بأنه من المجنسين وليسوا مواطنين قطريين .
هل هذا عيب ؟؟ هو ليس عيبا فضلا عن كونه يحسب لقطر ، خاصة أنها دولة منحت تقديرا عاليا للمقيمين العرب على ارضها . ولماذا لم يجنس الآخرون الكفاءات لحصد الإنجازات ؟ هاهم المجنسون والمقيمون يدافعون عن قطر أكثر من أبناء البلد .
يشطح أحد الاعلاميين في برنامجه “مع تحفظنا على عدم ذكر اسماء” ليصف المنتخب القطري بأنه المنتخب” القطري المحتل ” لأن حسب وجهة نظره التي يسوقها للجمهور بأن قطر محتلة . وهذا منتخب الاحتلال ، بينما يتجاوزه آخر من منبر مناقض في شطحة بهلوانية ذات لمسة أنسانية ليخبرنا أن فوز قطر كان بفضل دعاء أمهات غزة ، بعد وصول المساعدات المالية القطرية إلى القطاع . الله أكبر ، اخيرا استجاب الله لأمهات غزة من أجل قطر .
صحيفة البيان الاماراتية عنونت بعد فوز قطر على اليابان في المباراة النهائية وحصولها على كأس آسيا ، بالتالي ” خسارة منتخب اليابان لكأس اسيا ” ، مع صورة للمنتخب الياباني .
أين تاريخ الاخوة والتجاور والتصاهر وقرابة الدم ؟ هل تمحيه بهذه السهولة جلدة منفوخة بهواء تسمى كرة ؟!
يتحدث شيخ جليل أو هكذا يبدو من برنامجه بحرقة عن خروج منتخب الامارات من بطولة آسيا ، ويقول” لا بأس خرج من بطولة كرة قدم ، ولكن الآخر خرج من الأمة بالخيانة ” . معلق رياضي متحمس يصرخ بعد هدف قطر في مرمى الإمارات ” دوس عليهم دوس ” . تشتعل منصات التواصل الاجتماعي الإمارتية استنكارا وشتما لكل شيء في قطر . تنقل وسائل الإعلام وتكرر فيديو لطفل اماراتي لا يتجاوز الخامسة من عمره ، يبكي ويصرخ ويشتم قطر والقطريين .
لا تكفي هذه المساحة لسرد الكم الهائل من العبث ، هذه مجرد أمثلة فقط . هذا الخطاب من على الشاشات ينتقل مباشرة الى وسائل التواصل الاجتماعي على شكل حفلات شتائم وكراهية و تباغض تفوق أي تصور . ما الفائدة ؟؟ ومن الرابح ؟ كلنا مهزومون في حرب انعدام الأخلاق .
من أين طلع علينا هذا الكم من الطبالين ، والمشعوذين ليحتلوا المنابر ويشعلوا نار الحقد بين الأخوة . كيف نزل مستوى الخطاب في الاعلام إلى هذا الدرك ؟ أليس الإعلام والإعلاميون والصحفيون هم قادة الرأي العام والنخبة والطليعة . أم ولى هذا الزمن ؟
صدق رسول الله عندما قال سيأتي يوم على أمتي يتحدث فيه “الرويبضة ” قالوا وما الرويبضة يا رسول الله ، قال ” الرجل التافه يتحدث في العامة ” .
عبر تاريخنا العربي كانت الخلافات السياسية دائما حاضرة ، والحملات الإعلامية أيضا كانت تستخدم في الخلاف ، ولكن ما يحصل اليوم تجاوز كل حد ، وانتقل إلى الشعوب والمجتمعات منذرا بمخاطر كارثية ، في حين يتابع أعداء العرب كل هذا مندهشين من حجم كرهنا لبعضنا ، ورحمتنا تجاههم . اسود على بعضنا ونعاج أمام الأعداء .
دمرنا بلدننا بالحقد والكراهية ، والتحريض ، الطائفي والمذهبي و القبلي ، صفقنا لقطعنا رؤوس بعضنا ، شوهنا ديننا وعقيدتنا ، وسمعة بلدننا وشعوبنا ، بددنا ثرواتنا ، حكمتنا الخلافات الشخصية لحكام جرونا وراءهم كالاغنام بل أضل سبيلا . وماذا بعد ؟