بعد زلزال خاشقجي لماذ يغضبون من تدويل المُقدّسات
ثمة سؤال يُطرَح وبقوّة الان: إن الأيدي التي قتلت جمال خاشقجي وآلاف غيره، داخل السعودية وفي اليمن وسوريا، هل يجوز شرعاً أن تظلّ مشرفة؛ إفتاء، وإشرافاً وإدارة، على الأماكن الإسلامية المُقدّسة في الحجاز ؟ إنه سؤال بات يشغل الرأي العام الإسلامي والعربي، وما كان يُقال همساً، الآن وبعد ذبح خاشقجي، بدأ يُقال علناً، إذ أن مُقدّسات مكّة والمدينة تأبي أن يحرسها ويُديرها مَن يقتل المسلمين والبشر هكذا، إلا أنه عندما يُطرَح السؤال مُجدّداً فإن بعض الأصوات الشاذّة والتابعة لإعلام وسياسة آل سعود تصرخ في وجهه وتنكر عليه دعوته، رغم أهميته اليوم بعد زلزل خاشقجي الذي لاتزال آثاره تترى، يغضب آل سعود ومن سار في ركابهم من إعلاميين وساسة، غضباً شديداً عندما يتجرّأ كاتب على التلميح بأهمية أن يشرف العالم الإسلامي على موسميّ الحجّ والعُمرة وعلى الإفتاء والحماية المعنوية للأماكن الإسلامية الحجازية المُقدّسة، وفوراً تنبري الأقلام ويخرج إعلام النفط والتبعيّة ليُسفّه الدعوة ويتّهم أصحابها بشر الاتهامات>
ولأن القضية كانت وستظل في غاية الأهمية بعد طول مُعاناة مع الفكر والممارسة الوهّابية التي أهانت المُقدّسات وشعائرها، ووظّفت قدسيّتها في الأغراض السياسية المُعادية للإسلام ولاستقلال وحرية دوله، طيلة المائة عام الأخيرة – وهي فترة حُكم الأسرة السعودية – لأن الأمر كذلك خاصة بعد حادثة خاشقجي، فإننا اليوم نقدّم للرافضين لهذه الدعوة؛ دعوة التدويل والإشراف الإسلامي على مُقدّسات الحجاز، دليلاً من التاريخ القريب، ومن داخل الأسرة السعودية ذاتها، بل من أهم رأس فيها وهو المؤسّس عبدالعزيز آل سعود والذي دعا ذات يوم وعند تأسيس مملكته، إلى الإشراف الإسلامي على الحجاز ووثّق دعوته أحد أهمّ مستشاريه ومؤرّخيه وهوحافظ وهبة، والذي أصدر أهم كتب تاريخية عن تأسيس المملكة وعن إبن سعود ذاته ، وهنا نعود إلى كتابيه المُهمّين (جزيرة العرب في القرن العشرين) و( خمسون عاماً في جزيرة العرب).
أيضاً ثمة دراسات أخرى في ذات القضية وتؤكّد على صحّة الدعوة للتدويل الإسلامي للإشراف وللفتوى بالنسبة للأماكن المُقدّسة، ومنها الدراسة الهامة للمناضل إبن الجزيرة العربية الدكتور فوزي أسعد نقيطي الذي يعيش في القاهرة منذ الستينات، وهو مناضل قومي الاتّجاه حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، وله رؤى قومية ومُحترمة ووضع رسالتيه (الماجستير والدكتوراه) حول جذور فكرة التدويل الإسلامي للأماكن المُقدّسة، خاصة مع بداية تشكّل الدولة السعودية الراهنة في بدايات العشرينات ، الماجستير حملت عنوان "العلاقات السعودية – البريطانية 1901-1946" والتي ناقشها في قسم التاريخ كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1982.
الدراسة الثانية للدكتور / فوزي أسعد نقيطي وهى رسالته للدكتوراه والمعنوَنة بـ" العلاقات المصرية – السعودية من (1937 – 1967) والتي حصل بها على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر (عام 2000) ، وكانت تحت إشراف الدكتور رؤوف عباس حامد، ومن جملة هذه الدراسات وغيرها مما لايتّسع المقام لذِكرها نكتشف أن الحملة الدعائية التي سبقت احتلال إبن سعود للحجاز كان كتّابه ومؤرّخوه ومنهم حافظ وهبه يركّزون في منشوراتهم التي كانت تحمل إسم الأمير (الملك) فيصل، على هذا المعنى وهو أن إبن سعود لم يهدف من وراء الهجوم على الحجاز إلا رفع الظلم الهاشمي عن الحجازيين، وأنه اذا ما تم له ذلك، فإنه سيترك أمر الحجاز لمؤتمر إسلامى يقرّر مستقبله - راجع حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين ص253 – راجع: حافظ وهبه خمسون عاماً في جزيرة العرب، ص56.
وبعد احتلال مكّة المُكرّمة ردّد مؤرّخون مُتسعودون آخرون ومنهم يوسف ياسين ومعه رشدي ملحس نفس المعزوفه في المقالات التي كانت تظهر على صفحات جريدة أمّ القرى، أو في المنشورات التي كان يتم توزيعها في مكّة المُكرّمة ومدينة جدّة.
بل أن حافظ وهبه قد أبلغ وفد مصر الذي زار إبن سعود في شهر سبتمبر 1925 (قبيل احتلال جدّة بثلاثة شهور) برئاسة الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر أبلغه بالآتي وذلك حسب رؤية حافظ وهبه نفسه:
1- إن الحجاز للحجازيين من جهة الحُكم، وللعالم الإسلامي من جهة الحقوق التي لهم في البقاع المُقدّسة.
2- إجراء استفتاء عام لاختيار حاكِم الحجاز تحت إشراف مندوبي العالم الإسلامي.
3 – تحديد الحدود الحجازية، أما وضع النُظم المالية والاقتصادية والإدارية فهو موكول لمندوبى الممالك والشعوب الإسلامية.
ويؤكّد حافظ وهبه أن إبن سعود وافق على هذا الأساس (كتاب: جزيرة العرب في القرن العشرين.ص257-258
وتؤكّد حقائق ذلك الزمان أن الوفد المصري قد فرح كثيراً وسافر إلى القاهرة حاملاً معه كتاب سلطان نجد المُتضمّن هذا الأساس ، وجاء بعد الوفد المصري وفد إيراني فأكّد له حافظ وهبه ما سبق وأن أكّده للوفد المصري ، أما عن إبن سعود نفسه فقد كرّر المعنى ذاته في مناسبات عديدة أنه نقدّم بعضها موثّقة ومن واقع المراجع التاريخية.
نقدّمها للتأكيد على الفكرة وجوهرها: أولها رسالته التى بعث بها إلى حاكم الحجاز وقتها رداً على رسالة هذا الأخير باقتراحه بحث سُبل السلام بين نجد والحجاز في 16 نوفمبر 1924 ، ورسالته إلى أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس خلال نفس الفترة ، وأيضاً خطابه قبل مغادرته الرياض وهو في طريقه إلى مكّة المُكرّمة أوائل نوفمبر 1924و في رسالته التي بعث بها إلى قناصل الدول الأجنبية في مدينة جدّة ف] 23 نوفمبر 1924 ، وأكّد الفكرة ذاتها بعد وصوله مكّة المُكرّمة وأثناء اجتماعه بعُلمائها في ديسمبر 1924 ، وأيضاً أكّد عليها في رسائله التي بعث بها إلى بعثة فيلبي – الريحاني – النقيب أثناء تواجدهم في جدّة، بحجّة الوساطة، وذلك في ديسمبر 1924، وفي الرسالة التي كان قد أرسلها إلى الملك يحيى ملك اليمن حينما اقترح الأخير إرسال وفد للسعي إلى الصلح في شهر أكتوبر 1925.
ثم في تأكيداته للسيّد إدريس السنوسي وإمام مسقط وإمام عُمان وأخيراً: بمناسبة دخوله مدينة جدّة بعد استسلام الحاكم وقتها يوم 24 ديسمبر 1925، حيث أصدر منشوراً عاماً وجّهه لأهل الحجاز ختمه بالجملة التالية: "وأما مستقبل البلاد فلا بد لتقريره من مؤتمر يشترك المسلمون جميعاً فيه لينظروا في مستقبل الحجاز ومصالحه،(المصدر حافظ وهبة كتاب جزيرة العرب ص259) . لكن التاريخ يُنبئنا أن إبن سعود تنكّر لكل هذه الرسائل والوعود فور استتباب ملكه وهو عين ما فعله أولاده ، والآن أحفاده وإعلامهم اليوم (2018) ، لكن التاريخ بوثائقه وحقائقه سيظل شاهداً على أن عبدالعزيز آل سعود كان هو أول من دعا إلى الإشراف الإسلامي على الأماكن الإسلامية المُقدّسة ، وأن غضب البعض من هكذا دعوة لا مبرّر له، وإن كان ولا بد من أن يغضبوا فإن المنطقي والصواب أن يوجّهوا غضبهم لإبن سعود نفسه.
لأنه في هذه الدعوة لتدويل وأسلمة الإشراف على المُقدّسات الحجازية؛ كان المنبع والأصل ومن ثم ينبغي نقده هو أولاً إذا كان في ما مارس أو قال وقتها أيّ شطط أو إخلال بمفاهيم إسلامية وسياسية ثابتة . إن زلزال حادثة خاشقجي ينبغي أن تدفع نخبة الإعلام الشريف في عالمنا العربي والإسلامي العلماء الأحرار إلى المطالبة فوراً بأن مَن يُدير ويُشرف على مقدّسات مكّة والمدينة ،هي الأيدي المُتوضئة ،لا .. الأيدي القاتلة ، الأيدي التي تحمل المصحف ، للهداية بالرحمة ، والعدل والإحسان ،لا ، تلك التي تحمل السيف والمنشار لذبح الإعلاميين والدُعاة والأطفال . والله أعلم.
D.H