الإقتصاد الإسلامي خير علاج لأزمات الرأسمالية المتتالية
من يتابع قصاصات الأخبار يلاحظ أن الخبر الأهم و الأبرز ، هو حركة الأسواق و تقلباتها، وليس هذا الاهتمام بجديد، بل هو نتاج طبيعي لهيمنة الأنموذج الإقتصادي الرأسمالي بمبادئه و سماته السلبية منها و الإيجابية، فالعالم بعد انهيار جدار برلين دخل حقبة تعميم النمط الرأسمالي في الإقتصاد، كما في السياسة و الإجتماع، فانهيار الكتلة الإشتراكية، وفشل النموذج الإشتراكي، فسر آنذاك على أنه انتصار للنظام الرأسمالي الأفضل و الأكفأ، لكن واقع الحال كان غير ذلك، و لعل هذا الابتهاج بانتصار النظام الرأسمالي، هو مادفع إلى تبني مقولات نهاية التاريخ، و القرن الأمريكي و ما إلى ذلك من العبارات و الشعارات الممجدة لقيم الرأسمالية و الليبرالية الغربية..
لكن هذا الابتهاج و السعي إلى “أمركة” العالم و تعميم قيم إقتصاد السوق، و جعل الرأسمالية الخيار الأوحد، لمختلف شعوب و بلدان العالم ، وإن إقتضى الأمر تعميمها تحث الضغط المالي و الاقتصادي، عبر بوابة المنظمات المالية الدولية، أو عبر القوة العسكرية كما حدث في حالة الغزو المباشر للعراق و أفغانستان، أو بشكل غير مباشر عبر استغلال الأزمات السياسية و الإقتصادية التي تمر بها البلدان المختلفة، و إجبارها على تنفيذ إصلاحات جذرية بغرض لبرلة الإقتصاد و خصخصة المؤسسات العامة و تحرير حركة السلع ورؤوس الأموال دخولا وخروجا، و تقليص دور الدولة و حصره في الأمن و التنظيم، بمعنى استبدال مفهوم الدولة المتدخلة بالدولة الحارسة…
لكن بعد مرور أكثر من ثلاث عقود على هذا التوجه الدولي المتطرف (بدأ من أزمة 1971 ( وجب النظر إلى ماذا تحقق للشعوب، وهل نجحت قيم الرأسمالية و إقتصاد السوق بغير قيود ، في تحقيق ماتم الترويج له من رفاه اجتماعي، و توسيع لخيارات الناس الإقتصادية و الإجتماعية و بالأحرى السياسية، أم أن هذا النموذج المتطرف قد قاد إلى كوارث إجتماعية و إقتصادية و قلص من حريات و حقوق الأفراد و الجماعات? و ماهي البدائل المتاحة للخروج من حلقة النموذج الرأسمالي المتوحش? وهل يمكن أن يكون النموذج الإسلامي في الاقتصاد خاصة و الاجتماع و العمران البشري عامة خيارا للشعوب العربية و الإسلامية، ولما لا لباقي شعوب العالم?
أولا – تدور النظام الاقتصادي الرأسمالي:
تُعرف الرأسمالية بأنها نظام اقتصادي وسياسي يتم بموجبه التحكم في التجارة والصناعة في بلد ما بواسطة القطاع الخاص من أجل الربح بدلاً من الدولة، إذ يتم امتلاك السلع الرأسمالية من قبل الأفراد أو الشركات الخاصة، ويستند إنتاج السلع والخدمات على العرض والطلب في السوق العام وعلى اقتصاد السوق وليس على التخطيط المركزي أو الاقتصاد الموجه، وقد نشأ النظام الرأسمالي في العالم الغربي في أعقاب تفكك الإقطاع، وعلى الرغم من أن التطور الحديث للرأسمالية يرجع إلى القرن السادس عشر، إلا أن النظام الرأسمالي وتعاملاته كانت موجودة في العالم القديم، حيث ازدهرت الرأسمالية قديماً منذ العصور الوسطى الأوروبية، تقوم الرأسمالية الكلاسيكية في جذورها على شيء من فلسفة الرومان القديمة، من خلال الرغبة في امتلاك القوة وبسط النفوذ والسيطرة… و قد خضعت في تطورها لأفكار المذهب الحر والمذهب الكلاسيكي. فما يهم الرأسمالية الكلاسيكية من القوانين الأخلاقية إلا ما يحقق لها المنفعة ولاسيما الاقتصادية منها على وجه الخصوص.
ومن المؤكد أن النظام الرأسمالي تطور عبر العصور و لم يبقى جامدا أمام التحديات الناشئة والأزمات المتتالية، إذ ظهرت مدارس و تيارات فكرية، مواكبة لهذه التطورات التي شهدها النظام الرأسمالي خاصة بعد مرحلة الكساد الكبير لعام 1929، فظهرت مدارس فكرية منها ” الكينزية” و ” الليبرالية الجديدة” و ” التاتشرية” و “مدرسة شيكاغو للاقتصاد” و التي لعبت دورا بالغ الأهمية في صياغة ملامح رأسمالية العقدين الأخيرين و أشهر روادها )فرانك نايت ، فريدريش فون هايك، جورج ستيجلر، ملتون فريدمان..(
و قوة المدرسة و تأثيرها نابع من أن أغلب قادة العالم في السياسة و الاقتصاد تتلمذوا على يد أساتذة هذه المدرسة، بدأ من بعض رؤساء الولايات المتحدة مرورا بقادة الحزب الشيوعي الصيني…و أهم خصائص هذه المدرسة تبنيها لليبرالية متوحشة، مناهضة لدولة الرفاه، و مشجعة على أسلوب “العلاج بالصدمات”، فهي ترى أن الأزمات و الكوارث الطبيعية او الحروب التي تمر بها الشعوب و البلدان، ينبغي استغلالها لتنفيذ حزمة إصلاحات سياسية و اقتصادية و اجتماعية، تنسجم مع توجهات المدرسة بغض النظر عن الأثار الاجتماعية، و الأخلاقية المترتبة على ذلك.. والدافع إلى ذلك أن الشعوب و الجماعات تكون فاقدة لروح المقاومة أثناء اندلاع الكوارث و الأزمات. و هو ما سنحاول التوسع فيه من خلال المحور الموالي..
ثانيا : رأسمالية الأزمات و الصدمات
وضحنا في السابق الدور الذي تلعبه ” مدرسة شيكاغو” و ذلك لأن فلسفتها و مبادئها، لها تأثير بالغ الأهمية في وصفات الإصلاح و التحرير التي شهدتها بلدان العالم المختلفة، بدأ من سياسة التقويم الهيكلي في أواخر سبعينات القرن الماضي، و في التحول الاقتصادي الذي شهدته بلدان شرق أروبا و روسيا ، وكذلك ماحدث في الصين خاصة بعد أحداث “تيانتامين”…و الإجراءات و التدابير التي خضعت لها بلدان شرق آسيا بعد الأزمة المالية لعام 1997، و كذا الإجراءات المتخدة في الولايات المتحدة ذاتها سنة 2008 مع اندلاع أزمة الديون العقارية، و التي تحولت لأزمة مالية عالمية، تأثرت بها بلدان أوربا كاليونان و إسبانيا و عمت العديد من البلاد الأخرى ، فكانت خلاصة هذه الأزمات المزيد من التذابير التي تصب بالنهاية في تفقير الفقير و إغناء الغني.
فالنظام الرأسمالية خلال أكثر من ثلاث عقود مر بنحو 15 أزمة تبدأ في دولة أو مجموعة دول،لتمتد عدواها إلى باقي النظام الاقتصادي المالي الدولي ، و عموما يمكن القول أن النظام الرأسمالي، بعد أزمة 2008 تعرض لهزة عنيفة و لم يعد متماسكا كما قبل، فبداخل الولايات المتحدة قلعة الرأسمالية، تعرض النظام للنقد من قبل سدنة النظام و دعاته، فهذا “آلان جرينسبان” مدير البنك الفيدرالي الأمريكي يصرح سنة 2008 أمام اللجنة الأمريكية لمراقبة العمل الحكومي أنه وجد شرخا في الإيديولوجية التي يؤمن بها ..
وعموما، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد ممنذثلاثة عقود تحكمه نواقص بنيوية تعد سببا في متتالية الأزمات ومنها:
تسليع المال : فالمال أصبح يولد المال دون الحاجة إلى العمل ، فتكدس الثروة بواسطة الثروة نفسها وليس بواسطة العمل، فمنذ عام 1971 إلى الآن، كان التوجه العام للاقتصاد الرأسمالي يؤشر إلى أن القطاع المنتج في تباطؤ، وأن القطاع المالي هو الذي ينمو بشكل سريع، وتشيرالتقديرات إلى أن 90% من الحركة اليومية للرأسمال تتمركز في القطاع المالي، وبالتالي فإن الاقتصاد الحقيقي لا يحظى إلا بنحو 10% من النشاط المالي. وهذا الأمر فرض -بالضرورة- أن تتحكم “الأوليغارشية” المالية بمجمل الاقتصاد، وبالسلطة في الدول الرأسمالية، وأن تفرض منطقها عالميا، و أن تصبح آليات النهب هي السائدة في عموم النمط الرأسمالي المحلي و العابر للحدود، ومن ذلك، التوسع في سياسات خفص الأجور، والتخلي عن الضمان الاجتماعي والصحي والتعليم المجاني، وزيادة العاطلين عن العمل..
نظام هدفه الأساس نمو الثروة، بغض النظر النتائج الإنسانية والاجتماعية والبيئية …
تحويل السلطة من الحكومات إلى الكيانات الاقتصادية العابرة للحدود، وهو ما أدى إلى تقييد الحكومات والسياسات أمام الكيانات الإقتصادية الرأسمالية الضخمة ، وبالتالي التأثير على القرار السياسي والتحكم فيه مما يؤدى إلى انحياز السياسات الإقتصادية و التنموية إلى طبقه بعينها، مما يؤدى بالنتيجة إلى توسيع دائرة الحرمان الاقتصادي و الاجتماعي مقابل توسيع خيارات القلة الهيمنة على السلة و الموارد الاقتصادية
و نتيجة لهذه الاختلالات البنيوية، أصبح من الضروري بحث عن طريق ثالث وسط ، فمن المستبعد العودة للنظام الإشتراكي الذي تبت فشله في بلدان المهد ، ومن الصعب الاستمرار في نظام رأسمالي أصبح أقرب لإنتاج الأزمات و الكوارث الإقتصادية و المالية، بدلا من إنتاج الثروة و تعميم الرفاه وتعزيز الاستقرار والانضباط…
ثالثا -الاقتصاد الإسلامي وصفة علاجية لمتتالية أزمات النظام الاقتصادي الرأسمالي:
إذا قررنا بأن النظام الاقتصادي الرأسمالي يعيش أزمة عميقة، وأن الأزمات و الصدمات المتتالية مؤشر على ظهور قوى ومراكز مالية و اقتصادية خارج المنظومة الحضارية الغربية، فعلينا أن نقر أيضا أن العرب و المسلمين بعيدين في الوقت الراهن على أن يكونوا البديل الإقتصادي.. فالمؤشرات الحالية تدل على أن الصينيين والهنود ومعهم اليهود يوطدون سيطرتهم على مفاصل الرأسمالية العالمية، وهم من يكتنزون و سيكتنزون الأموال في المستقبل القريب، فمراكز مالية كشنغهاي وبومباي وموسكو أصبحت تتعاظم قوتها بالتدريج، بعد تراجع نسبي للمراكز التقليدية في الغرب بعد الأزمة المالية ل 2008 أما العرب والمسلمون فلم يحن الوقت بعد ليكونوا البديل خاصة و أنهم بعيدون كل البعد عن مصادر القوة التي بين أيديهم و في مقدمة ذلك الدين الإسلامي …
غير أن القرأن الكريم و السنة النبوية، تبشرنا بأن المستقبل للإسلام والمسلمين، و على ضوء ذلك نوجه أنظار العرب و المسلمين إلى أن أزمات الرأسمالية، علاجها وارد في الآليات و الضوابط التي جاء بها الإسلام و شكلت خصائص مميزة للمنظومة الإقتصادية الإسلامية…
فالأسباب الكامنة وراء الأزمات الاقتصادية و المالية في النظام الرأسمالي رغم تعدد تسمياتها، إلا أنه يصعب إخراجها عن العوامل التي سبق و ذكراه، و من ذلك تحويل المال إلى سلعة ، و ما يصاحب ذلك من احتكار واستغلال عبر انتشار الربا ، لذلك، فإن المعاملات الماليّة الربوية محرمة في الإسلام، ويشمل التحريم كافة القروض التي تُمنح للأفراد أو المُنشآت بنسبة فائدة مالية.. وهذا التحريم نص عليه القرأن قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)،و في السنة النبوية الشريفة فقد وَرد في حديث عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: (لَعَنَ الله آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ).
و نفس الأمر يسري على الأوراق المالية المشتقة، وهذه الأخيرة، قد تشتق من أصول رئيسية، ويتم تداولها بشكل منفصل عن الأوراق المالّة المُشتقَّة، كما قد تشتق من أصول وهمية غير حقيقيّة ، وتعتمد على وجود وعود مُستقبلية بالبيع أو الشراء. وقد ازداد التعامل بهذا النوع من المُشتقّات الماليّة ضمن الأسواق، مما أدى إلى ظهور تقلُّبات سوقيّة ساهمت في جعلها أحد أهم أسباب الأزمات الاقتصادية العالمية المتتالية ، وقد حرم الإسلام هذا النّوع من الأوراق المُشتقَّة المُعتمِدة على معاملات وهمية، لأنّها تُعد شكلاً من أشكال القِمار المحرم شرعا ،قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
كما أن الإسلام يفرض غطاء على الأموال المُتداولة عن طريق الاعتماد على الفضة والذهب، مع الحرص على عدم حصر المال في يدِ جماعة محددة من الأفراد، بل يجب تداوله بين الناس حتى يصل إلى الجميع. و يعتمد الإسلام على استخدام نموذج متكامل وعادل من المشاركة الماليّة، يشمل “المُفاوَضة” و”المُضارَبة”، ممّا يمنع انتشار الجهل بين الشركاء في المؤسسات والشركات المختلفة.
فالإسلام يحظر الربا ويحرم الاحتكار، ويدعو إلي العمل و الإنتاج و إلى عدالة التوزيع و هي مقاومات أساسية لتأسيس لاقتصاد حقيقي بدل إقتصاد مبني على الفقاعات المالية، إقتصاد في خدمة عامة الناس و ليس إقتصاد يسخر عامة الناس لصالح قلة من الناس… وهذا بعض من كل فخصائص وسمات الإقتصاد الإسلامي من الصعب حصرها في مقال واحد ..و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون